خطبة عن إتقان العمل في الإسلام للشيخ محمد نبيه يوضح فيها كيف حث الإسلام على إتقان العمل ويذكر فوائد إتقان العمل على الفرد وعلى المجتمع.
حث الإسلام على إتقان العمل
إن قيمة إتقان العمل في الإسلام قيمة عليا، يجب مراعاتها في السلوك الاقتصادي، وخاصة في عملية الإنتاج، وقيمة إتقان العمل توصل العبد إلى محبة الله تعالي.
يقول صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ). (صحيح الجامع:1880)
ولقد أحسن من قال:
إذا عمل المرءُ المكلف مرةً | عملًا فإنّ العيبَ ألّا يحسنه | |
فقدْ ذكرَ المختارُ أنّ إلهنَا | يحبُّ لعبدٍ خافَهُ أنْ يتقنَه |
وليس هذا فحسب بل إن الرسول صلوات ربي وتسليماته عليه حثنا على إتقان وإحسان الذبح رأفة ورحمة بالطير والحيوان.
فقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسَانَ علَى كُلِّ شيءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ). (صحيح مسلم:1955)
وفي مجال العبادة حثنا الإسلام على إتقانها وأدائها كاملة الأركان والشروط والواجبات؛ وإلا كانت هباءً منثوراً.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام قال: (ارْجِعْ فَصَلِّ فإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ).
فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وعَلَيْكَ السَّلَامُ)، ثم قال: (ارْجِعْ فَصَلِّ فإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ)، حتى فعل ذلك ثلاث مرات.
فقال الرجل: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا علمني، قال: (إذَا قُمْتَ إلى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ ما تَيَسَّرَ معكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذلكَ في صَلَاتِكَ كُلِّهَا). (صحيح مسلم:397)
فأتقن عملاً واحداً تتميز به أفضل من قيامك بأعمال عدة ظاهرة للجميع قد تُصنفك في عِداد الفاشلين.
إن الإتقان مطلوب حتى في الأمور التي لا يتوقف عليها نفع أو ضرر للميت، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كفَّنَ أحَدُكم أخاهُ، فلْيُحسِنْ كفَنَه). (صحيح مسلم:934)
حتى في الدفن واللحد أُمرنا بالإتقان؛ ففي دفن أحد الصحابة جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سوُّوا لَحْدَ هذا) حتى ظن الناس أنه سنة، فالتفت إليهم، فقال: (أما إن هذا لا ينفع الميت ولا يضره، ولكن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يُتقنه). (رواه البيهقي)
فانظروا – يرعاكم الله – كيف أمر بالإتقان حتى في هذا الموضع الذي لا يضر الميت فيه سقط عليه التراب أم لا إذا ما ضر الشاة سلخها بعد ذبحها، ولكنه التوجيه بالإتقان وتنميته لدى الضمير المسلم الواعي ليكون دافعا قويا للدعوة إلى إحسان العمل وإجادته أيا كان.
فإذا كان هذا في القبر وحال الموت ففيما هو أكبر منها أولى وأجدر!!
والنصوص في هذا كثيرة جداً ليس هذا محل بسطها إذ يكفي بالقلادة ما أحاط بالعنق؛ فهل يعي المسلمون قيمة هذا المفهوم في شريعتهم؟! وهل يسعون بعد هذا الفهم إلى تفعيله في أوساطهم وبالأخص الأوساط العلمية والعملية التي تنطلق منها مجالات العمل وسوقه من صناعات وإنجازات ومهارات؟!!
أحبتي في الله: إن الإتقان والحث عليه ليس مقتصرًا على أمور العبادة فحسب، بل يمتد حتى يصل للأمور الدنيوية؛ ومن هنا نعلم أن سبب تأخر المجتمعات المسلمة في أهم مجالات الحياة إنما هو بسبب فقدان الإتقان وضحالة المهارة والعجز عن ملاحقة السباق الحديث في ميادين الثقافة والصناعة والمهارة التي تعود بالنفع العام على المسلمين وتجعلهم في مقدمة أمم الأرض بعد أن تأخروا عن سبقهم الذي كانوا عليه في القرون الأولى؛ لأن العصر الحديث يتطلب مستوى رفيعًا من التخصص المكمل الإتقان؛ إذ فاقد الشيء لا يعطيه، بل لا يحسن الشيء من لا يفهمه أو يعيه!!
فالمسلم مطالب بالإتقان في كل عمل؛ لأن كل عمل يقوم به المسلم بنيّة العبادة هو عمل مقبول عند الله يُجازى عليه سواء كان عمل دنيا أم آخرة.
وكوننا مسلمين فنحن مُطالبون بالإتقان في كل عمل تعبدي أو سلوكي أو حياتي (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). (سورة الأنعام:162)
اقرأ أيضا: فضل العمل في الإسلام
شواهد الحق على العمل يوم القيامة
عباد الله: الإتقان الإتقان تفلحوا؛ وإياكم والغش والإهمال والتقصير في العمل، واعلموا أن عملكم معروض على الخالقِ سُبحانه وتعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (سورة التوبة:105)
قال ابن كثير وغيره: قال مجاهد: هذا وعيد – يعني من الله تعالى – للمخالفين أوامره، بأن أعمالهم ستعرض عليه، وعلى الرسول والمؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، وقد يظهر ذلك للناس في الدنيا، والرؤية هنا شاملة للعلمية والبصرية.
فالعبد المؤمن يفرح بعمله الصالح ويُسَرُّ بذلك أمام الله ورسوله وعباده يوم القيامة؛ وعلى العكس العبد الفاجر الفاسق الذي خبث عمله في الدنيا يُفضَحُ على رؤوس الخلائق يوم القيامة.
قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: يُدعى المؤمن للحساب يوم القيامة، فَيَعْرضُ عليه رَبُّه عملَه فيما بينه وبينه، فيعترف فيقول: نعم أيْ رب، عملتُ عملتُ عملت.
قال: فيغفر الله له ذنوبه، ويستره منها. قال: فما على الأرض خَليقة ترى من تلك الذنوب شيئًا، وتبدو حسناته، فَوَدَّ أن الناس كلهم يرونها.
ويُدعى الكافر والمنافق للحساب، فَيَعرضُ رَبُّه عليه عمله، فيجحد ويقول: أي رب، وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل.
فيقول له الملك: أما عملت كذا، في يوم كذا، في مكان كذا؟
فيقول: لا وعزتك أيْ رب ما عملتُه، فإذا فعل ذلك خُتِم على فيه.
قال أبو موسى الأشعري: فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ اليمنى، ثم تلا: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (سورة يس:65). (تفسير الطبري:20/544)
قال ابن كثير: هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة، حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم بما عملت فتفضحه جوارحه على رؤوس الخلائق يوم القيامة
عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: (هل تدرون مما أضحكُ؟).
قال: قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: (من مخاطبة العبدِ ربَّه. يقول: يا ربِّ! ألم تُجِرْني من الظلمِ؟ قال يقول: بلى. قال فيقول: فإني لا أُجيزُ على نفسي إلا شاهدًا مني. قال فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا. وبالكرامِ الكاتبين شهودًا. قال فيختُم على فيه. فيقال لأركانِه: انطِقي. قال فتنطق بأعمالِه. قال ثم يُخلّى بينه وبين الكلامِ. قال فيقول: بُعدًا لكُنَّ وسُحقًا. فعنكنَّ كنتُ أناضلُ). (صحيح ابن حبان:7358)
وعن أبي هريرة قال قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟
قال: (هل تُضارون في رُؤيةِ الشَّمسِ في الظهيرةِ، ليست في سحابةٍ؟).
قالوا: لا.
قال (فهل تضارُون في رؤيةِ القمرِ ليلةَ البدرِ، ليس في سحابةٍ؟).
قالوا: لا.
قال: (فوالذي نفسي بيدِه! لا تُضارون في رُؤيةِ ربِّكم إلا كما تُضارُونَ في رؤيةِ أحدِهما. قال فيلقى العبدَ فيقول: أي فُلْ! ألم أُكرِمْك، وأُسَوِّدْك، وأُزَوِّجْك، وأُسخِّرُ لك الخيلَ والإبلَ، وأذرُك ترأسُ وتربعُ؟ فيقول: بلى. قال فيقول: أفظننتُ أنك مُلاقي؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسِيتني. ثم يلقى الثاني فيقول: أي فُلْ! ألم أُكرِمْك، وأُسوِّدْك، وأُزَوِّجْك، وأُسَخِّرُ لك الخيلَ والإبلَ، وأذرُك ترأسُ وتربعُ؟ فيقول: بلى. أي ربِّ! فيقول: أفظننتُ أنك مُلاقي؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسِيتني. ثم يلقى الثالثَ فيقول له مثلَ ذلك. فيقول: يا ربِّ! آمنتُ بك وبكتابِك وبرسلِك وصليتَ وصمتَ وتصدقتَ. ويُثني بخيرٍ ما استطاع. فيقول: ههنا إذا. قال ثم يقال له: الآن نبعثُ شاهدَنا عليك. ويتفكَّر في نفسِه: من ذا الذي يشهدُ عليَّ؟ فيختُم على فِيه. ويقال لفخِذِه ولحمِه وعظامِه: انطِقي. فتنطقُ فخِذُه ولحمُه وعظامُه بعملِه. وذلك ليعذرَ من نفسِه. وذلك المنافقُ. وذلك الذي يسخط اللهُ عليه). (صحيح مسلم:2968)
فعلينا أن نُراقب الله في أعمالنا وفي كل شؤوننا وفي حال التزامنا بعمل يجب علينا القيام به على أكمل وجه يُحبه الله ويُحبه خلقه.
ولتعلموا أن أعمالكم مكتوبة ومسجلة ومحصاة عليكم: (يا عِبَادِي إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ، فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ). (صحيح مسلم:2577)
واعلم يا عبدالله أن كل عملٍ تعمله على الأرض – خيرا أو شرا – ستشهد عليك الأرض بذلك يوم القيامة، فهي تشهد على من خان عليها، وتشهد على من سرق عليها، وتشهد على من زنى عليها، وتشهد على من أهدر المال عليها، وتشهد على من هرب من عمله وقصر فيه عليها، وتشهد على من سفك دماء الأبرياء عليها، وتشهد على قُطَّاعِ الطرق والمحاربين عليها.
عباد الله: كثير من الناس – للأسف – يتقن عمله ويجوّده إن كان مراقباً من رئيس له، أو قصد به تحقيق غايات له أو سعى إلى السمعة والشهرة؛ لأنه يفتقد المراقبة الداخلية التي تجعله يؤدي عمله بإتقان في كل الحالات دون النظر إلى الاعتبارات التي اعتاد بعضهم عليها.
فالمؤمن لا يكتفي بالاندفاع الذاتي إلى العمل – استجابة لغريزته الفطرية في أن يجمع المال بشتى طرقه المشروعة وغير المشروعة كشأن النظم الوضعية – ولكن يهمه أن يجوده ويتقنه، ويبذل جهده لإحسانه وإحكامه، لشعوره العميق، واعتقاده الجازم أن الله يراقبه في عمله، ويراه في مصنعه أو في مزرعته، أو في أي حال من أحواله.
وهذا هو شعور المؤمن في كل عمل من الأعمال لا في العبادة وحدها – أن يؤدي العمل كأنه يري الله – فإن لم يبلغ هذه المرتبة، فأقل ما عليه أن يشعر أن الله يراه، وشعار المؤمن دائماً في أدائه لعمله: “إني أرضي ربي”. وربه لا يرضيه منه إلا أن يقوم بعمله في صورة كاملة متقنة؛ وبذلك ينال محبة الله تعالي.
وقد جاء في (جامع العلوم والحكم) قال أبو الجاد: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء، قل لقومك: (ما بالكم تسترون الذنوب من خلقي وتظهرونها لي، إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي، وإن كنتم ترون أني أراكم فلم تجعلوني أهون الناظرين إليكم). (جامع العلوم والحكم:1/162)
قال أحدهم:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل | خلوت ولكن قل عليّ رقيب |
وقال آخر:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة | والنفس داعية إلى العصيانِ | |
فاستحيي من نظر الإله وقل لها | إن الذي خلق الظلام يراني |
اقرأ أيضا: خطبة عن العمل في الإسلام
إتقان العمل بين الواقع والمأمول
أحبتي في الله: إن هناك انفصاما وانفصالا كبيرا بين الواقع والمأمول في إتقان العمل؛ فتجد أن الفرد يعمل بجد وإخلاص وجودة وإتقان إذا كان يعمل لنفسه؛ إما إذا كان يعمل في شركة أو وظيفة أو مؤسسة أو وزارة؛ فإنه لا يبالي بعمله؛ وإن شغله الشاغل التوقيع في دفتر الحضور والانصراف (شاهد الزور)؛ ولا يهمه بعد ذلك جودة أو خدمة أو إتقان أو قيام مجتمع أو سقوطه أو مراقبة أو غير ذلك!!!
وأسوق لكم قصة واقعية تدل على ذلك:
يروى أن هناك رجلا بناء يعمل في إحدى الشركات لسنوات طويلة؛ فبلغ به العمر أن أراد أن يقدم استقالته ليتفرغ لعائلته؛ فقال له رئيسه: سوف أقبل استقالتك بشرط، أن تبني منزلا أخيراً؛ فقبل رجل البناء العرض؛ وأسرع في تخليص المنزل دون “تركيز وإتقان” من ثم سلم مفاتيحه لرئيسه، فابتسم رئيسه وقال له: هذا المنزل هدية منِّي لك بمناسبة نهاية خدمتك للشركة طول السنوات الماضية؛ فَصُدِمَ رجل البناء؛ وندم بشدة أنه لم يتقن بناء منزل العمر!!
أقول: لماذا تَرضَى للآخرين ما لا ترضاه لنفسك؟!! لماذا تهتم بعملك الخاص ونفعه خاص غير متعدٍّ، ولا تهتم بأعمال الآخرين والوظائف العامة ونفعها يعم الآخرين؟!!
فالله غني عن أعمالك وعبادتك وليس بحاجة إليها، فأنت الذي بحاجة إليها وإلى أجرها العظيم، وكل عمل تقدمه – خيرا أو شرا مُتقَنا أو غير متقنٍ – فهو لك؛ وهذه القصة تؤيد هذا الكلام:
في يوم من الأيام استدعى الملك وزراءه الثلاثة، وطلب من كل وزير أن يأخذ كيساً ويذهب إلى بستان القصر ويملأ هذا الكيس له من مختلف طيبات الثمار والزروع، وطلب منهم أن لا يستعينوا بأحدٍ في هذه المهمة وأن لا يسندوها إلى أحد آخر.
فاستغرب الوزراء من طلب الملك وأخذ كل واحد منهم كيسه وانطلق إلى البستان؛ فالوزير الأول حرص على أن يُرضِيَ الملك فجمع من كل الثمرات من أفضل وأجود المحصول وكان يتخيّر الطيّب والجيّد من الثمار حتى ملأ الكيس.
أما الوزير الثاني فقد كان مقتنعاً بأن الملك لا يريد الثمار ولا يحتاجها لنفسه وأنه لن يتفحص الثمار، فقام بجمع الثمار بكسل وإهمال فلم يتحرَّ الطيّب من الفاسد حتى ملأ الكيس بالثمار كيفما اتفق.
أما الوزير الثالث فلم يعتقد أن الملك سوف يهتم بمحتوى الكيس أصلاً، فملأ الكيس بالحشائش والأعشاب وأوراق الأشجار.
وفي اليوم التالي، أمر الملك أن يُؤتى بالوزراء الثلاثة مع الأكياس التي جمعوها، فلما اجتمع الوزراء بالملك أمر الملك الجنود بأن يأخذوا الوزراء الثلاثة ويسجنوهم كل واحد منهم على حده مع الكيس الذي معه لمدة ثلاثة أشهر في سجن بعيد لا يصل إليهم فيه أحد كان وأن يمنع عنهم الأكل والشراب.
فالوزير الأول بقي يأكل من طيبات الثمار التي جمعها حتى انقضت الأشهر الثلاثة، والوزير الثاني عاش الشهور الثلاثة في ضيق وقلة حيلة معتمداً على ما صلح فقط من الثمار التي جمعها؛ أما الوزير الثالث فمات جوعاً قبل أن ينقضي الشهر الأول.
والحكمة هي أن نسأل أنفسنا أي نوع نحن؟!
فنحن الآن في بستان الدنيا، نغش ونتكاسل ونتهرب من أعمالنا!! نداهن ونراشي على حساب مجتمعنا!! نجمع من الأعمال الطيبة، أو الأعمال الخبيثة.
ولكن غداً عندما يأمر ملك الملوك أن تسجن في قبرك، في ذلك السجن الضيِّق المظلم وحدك، فماذا تعتقد أنه سوف ينفعك غير طيبات الأعمال التي جمعتها في حياتك الدنيا!!
ونقف الآن مع أنفسنا ونقرر، ماذا سنفعل غداً في سجننا؟!!
ولنتذكر دائماً أن إتقان العمل يتبعه نتائج رائعة، لذا، علينا إتقان العمل مهما كانت دواعيه وأسبابه.
عباد الله: راقبوا ربكم في أعمالكم؛ راقبوا الله في وظائفكم؛ راقبوا الله في تجارتكم وزراعتكم وتجارتكم؛ إنكم إن فعلتم ذلك عاش الجميع في سعادة ورخاء؛ وإلا عم القحط والجدب والفقر البلاد والعباد.
وإليكم هذه القصة في هذا المضمون: يحكى أنه حدثت مجاعة بقرية؛ فطلب الوالي من أهل القرية طلبًا غريبًا كمحاولة منه لمواجهة خطر القحط والجوع؛ وأخبرهم بأنه سيضع قِدرًا كبيرًا في وسط القرية؛ وأن على كل رجل وامرأة أن يضع في القِدر كوبًا من اللبن بشرط أن يضع كل واحد الكوب متخفيا دون أن يشاهده أحد.
فهرع الناس لتلبية طلب الوالي؛ فكل منهم تخفى بالليل وسكب الكوب الذي يخصه؛ وفي الصباح فتح الوالي القدر. وماذا شاهد؟!
شاهد القدر وقد امتلأ بالماء!! أين اللبن؟!
ولماذا وضع كل واحد من الرعية الماء بدلاً من اللبن؟!
الإجابة: أن كل واحد من الرعية قال في نفسه: إن وضعي لكوب واحد من الماء لن يؤثر على كمية اللبن الكبيرة التي سيضعها أهل القرية؛ وكل منهم اعتمد على غيره؛ وكل منهم فكر بالطريقة نفسها التي فكر بها أخوه، وظن أنه هو الوحيد الذي سكب ماءً بدلاً من اللبن.
والنتيجة التي حدثت: أن الجوع عم هذه القرية ومات الكثيرون منهم ولم يجدوا ما يعينهم وقت الأزمات!!
هل تصدق أنك تملأ الأكواب بالماء في أشد الأوقات التي نحتاج منك أن تملأها باللبن؟!
- عندما لا تتقن عملك بحجة أنه لن يظهر وسط الأعمال الكثيرة التي سيقوم بها غيرك من الناس فأنت تملأ الأكواب بالماء!!!
- حين تملك العلم وتبخل به عن الآخرين فأنت تملأ الكوب بالماء!!
- حين تبيع للناس الوهم والخزعبلات فأنت تملأ الكوب بالماء!!
- حين تطلق على نفسك الألقاب المزيفة بدون حق فأنت تملأ الكوب بالماء!!
- حين تعلم الآخرين (فضائل) أنت لا تملكها ولا تعمل بها فأنت تملأ الكوب بالماء!!
- حين تعمد لزرع الفتن وسط المجتمع من أجل مصالحك الشخصية فأنت تملأ الكوب بالماء!!
- حين تسفك دماء الأبرياء بغير حق فأنت تملأ الكوب بالماء!!
- حين تهدم الكفاءات والقدرات وتضع الحسالى والكسالى في مناصب القيادة فأنت تملأ الكوب بالماء!!
أحبتي في الله: إننا في حاجة ماسة إلي إتقان العمل، وخاصة في عصر ضاعت فيه القيم واختلط الحابل بالنابل، وضاعت الثقة بين الناس، والعامل لا يهمه إلا جمع المادة وتعداد ساعات العمل، دون النظر إلى جودة أو إتقان.
إننا يجب أن نغرس في نفوس أبنائنا خلق مراقبة الله في جميع أحوالنا وأعمالنا وحركتنا وسكوننا.
قال سهل بن عبد الله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سواء فقال لي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك فقلت: كيف أذكره؟
قال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك، الله معي الله ناظرٌ إلي الله شاهدي، فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته فقال: قل في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك ثم أعلمته فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشر مرة، فقلته فوقع في قلبي حلاوته.
فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك ودم عليه إلى أن تدخل القبر فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين فوجدت لذلك حلاوة في سري.
ثم قال لي خالي يوماً: يا سهل من كان الله معه وناظراً إليه وشاهده أيعصيه؟! (إحياء علوم الدين)
أبداً لا يعصه ولا يقصر في عمله؛ بل يحسنه ويُجَوِّدُه ويتقنه.
وقد ضرب لنا المربى العظيم صلى الله عليه وسلم مثلاً عملياً في التدريب العملي للأبناء على إتقان العمل.
عن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلام يسلخ شاة، فقال له: (تنَحَّ حتَّى أُريَك فإنِّي لا أراك تُحسِنُ تسلَخُ)، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بين الجلد واللحم فدحس بها – مدّها – حتى توارت على الإبط، وقال: (هكذا يا غلامُ فاسلَخْ)، ثم انطلق فصلى ولم يتوضأ ولم يمس ماء. (صحيح ابن حبان:1163)
فلم يستنكف ولم يستكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقف مع الغلام ويساعده في عمله ويسهّل له ما شق عليه، ويعلمه ما خفي عليه من إتقان السلخ!!
إنها يقظة المعلم وإحساس المربى بمسئولية الإرشاد والتقويم الدائم المباشر، في كل وقت وعمل.
فما أجمل أن يتخلق المجتمع بهذا الخلق القويم النبيل خلق إتقان العمل وجودته، حتى يتحقق الأمن والرخاء والسلام والمودة، وتزداد الثقة والروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع، وخاصة في السلوك الاقتصادي.