خطبة عن حد الحرابة في الإسلام للشيخ محمد نبيه بعنوان: الرعب والكآبة في تعطيل حد الحرابة.
الرعب: الانقطاع من امتلاء القلب بالخوف، ومنه قوله تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ۖ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۚ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ). (سورة آل عمران:151)
الكآبة: هي تغيُّر النَّفْس بالانكسار من شدَّة الهمّ والحزن.
الحِرَابَة هي قطع الطريق للسرقة والنهب والقتل وسفك الدماء وسبي النساء والذراري وقطع للنسل.
يقول تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). (سورة المائدة:33)
سبب النزول:
روى أصحاب الكتب الستة عن أنس بن مالك، أن ناسا من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فاجتووها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا). ففعلوا فصحوا، ثم مالوا على الرعاء فقتلوهم، وارتدوا عن الإسلام، وساقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث في أثرهم فأتي بهم فقطع أيديهم، وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا. (صحيح مسلم:1671)
كلمات ومعاني:
قوله: (أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ) هي بضم العين المهملة وفتح الراء وآخرها نون ثم هاء قبيلة معروفة.
وفي رواية أنهم من عكل أو عرينة، بالشك، وثبت أنهم كانوا ثمانية، وأن أربعة منهم كانوا من عكل وثلاثة من عرينة والرابع كان تبعا لهم.
قوله: (قدموا المدينة فاجتووها) هي بالجيم والمثناة فوق، ومعناه: استوخموها أي: لم توافقهم، وكرهوها لسقم أصابهم، قالوا: وهو مشتق من الجوى، وهو داء في الجوف.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها فافعلوا فصحوا) في هذا الحديث: أنها إبل الصدقة، وفي غير مسلم: أنها لقاح النبي صلى الله عليه وسلم، وكلاهما صحيح، فكان بعض الإبل للصدقة، وبعضها للنبي صلى الله عليه وسلم.
واستدل أصحاب مالك وأحمد بهذا الحديث أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهران، وأجاب الشافعية وغيرهم من القائلين بنجاستهما بأن شربهم الأبوال كان للتداوي، وهو جائز بكل النجاسات سوى الخمر والمسكرات.
فإن قيل: كيف أذن لهم في شرب لبن الصدقة؟ فالجواب: أن ألبانها للمحتاجين من المسلمين وهؤلاء إذ ذاك منهم.
قوله: (ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم) .
قوله: (وسمل أعينهم) هكذا هو في معظم النسخ (سمل) باللام، وفي بعضها (سمر) بالراء والميم مخففة، في صحيح البخاري (سمر) بتشديد الميم، ومعنى سمل باللام نقاها وأذهب ما فيها، ومعنى سمر بالراء: كحلها بمسامير محمية.
قال الخطابي: يريد أنه أكحلهم بمسامير محماة، قال: والمشهور في أكثر الروايات: سمل أي: فقأ أعينهم.
وعن أنس بن مالك قال: (إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة). (صحيح الترمذي:73)
اقرأ أيضا: خطبة عن حق الجار على الجار في الإسلام
وفي الحديث:
الإجماع على أن الكافر إذا قتل على شركه فمات مشركا أن ذلك القتل لا يكون كفارة له.
وأجمع أهل السنة على أن من أقيم عليه الحد من أهل المعاصي كان ذلك كفارة لإثم معصيته، والذي يضبط ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ). (سورة النساء:48)
وكان ذلك أيضا قبل أن تنزل الحدود كما في صحيح البخاري في كتاب الطب من قول قتادة: فحدثني محمد بن سيرين أن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود.
وكان هذا قبل النهي عن المثلة كما في صحيح البخاري في كتاب المغازي قال قتادة: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة، وينهى عن المثلة.
وقد حضر أبو هريرة الأمر بالتعذيب بالنار ثم حضر نسخه والنهي عن التعذيب بالنار كما روى البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد والسير عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث، وقال لنا: (إِنْ لَقِيتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا – لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُمَا – فَحَرِّقُوهُمَا بِالنَّارِ). قال: ثم أتيناه نودعه حين أردنا الخروج، فقال: (إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا). (صحيح البخاري:2954)
فالإفساد إذا لم يقابل بالعقوبة زاد وأرعب الآمنين وعندها لا ترى إلا الكآبة ونكد الحياة فلابد من الأخذ على أيدي المفسدين حتى ينتشر الأمن وتعمر الأوطان وتنهض.
قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ). (سورة الأعراف:142)
وقال تعالى: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ). (سورة هود:88)
فإذا أخذنا على أيدي المفسدين انتهى الفساد وعم الأمن العباد والبلاد عندها لا يفصلنا عن عيشة الملوك إلا العافية والكفاية من الرزق لما رواه الترمذي في سننه بإسناد حسن: قال: عن عبيد الله بن محصن الخطمي، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا). (سنن الترمذي:2346)