خطبة بعنوان البوح بما في سورة الشرح للشيخ محمد نبيه يشرح فيها سورة الشرح لأنها من السور التي نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وحده.
البوح بما في سورة الشرح
من السور التي نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وحده الضحى والشرح، وبما أننا قبل ذلك التقينا في (الوحا ببيان ما في سورة الضحى) لذا سيكون لقاؤنا اليوم مع “البوح بما في سورة الشرح“.
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1))
فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على الاستفهام ولم يقرأها مقطعة وما يفرق كلام الله من كلام خلقه أنه يؤخذ بالتلقي، ودخول الاستفهام على النفي يقرره ويحققه فيكون المعنى قد شرحنا لك صدرك.
في كتب اللغة يأتي الشرح بمعاني كثيرة منها:
الشرح بمعنى الشق: كتشريح اللحم وعلم التشريح علم يشرح اللحم للوصول إلى سبب العلة والجناية، وبهذا المعنى حدث الشرح للنبي صلى الله عليه وسلم حيث ثبت عند مسلم وغيره أنه شق صدره في طفولته واستخلص منه حظ الشيطان وأجريت له أول عملية قلب مفتوح في الوجود.
الشرح بمعنى السعة: ومنه قوله تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ). (سورة الأنعام:125)
وهذا المعنى تحقق للنبي صلى الله عليه وسلم وسع الله صدره فما كان يغضب لنفسه قط ولما كان يضيق صدره بكلام أعداءه دله على ما يذهب الضيق فقال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)). (سورة الحجر)
فاتسح صدره صلى الله عليه وأهله وصحبه وكان لا يرى إلا متبسما.
الشرح بمعني الكشف والبيان: كما يصنع المعلم مع الطلاب، يكتب العناصر ثم يضع خطاً ويكتب كلمة الشرح ليبين المعنى المراد من العناصر، وهذا تحقق له صلى الله عليه وآله وصحبه حيث إن الله خصه بجوامع الكلم فكان ينطق باللفظ الذي يحمل المعاني الكثير.
ومنه ما ورد في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني ربِّي في أحسَنِ صورةٍ فقالَ: يا محمَّدُ، فقلتُ: لبَّيكَ ربِّ وسعديكَ قالَ: فيمَ يختَصمُ الملأُ الأعلى؟ قلتُ: ربِّ لا أَدري، فوضعَ يدَهُ بينَ كتفيَّ فوجَدتُ بردَها بينَ ثدييَّ فعَلِمْتُ ما بينَ المشرقِ والمغرِبِ فقالَ: يا محمَّدُ فقلتُ: لبَّيكَ وسعديكَ، قالَ: فيمَ يختصمُ الملأُ الأعلَى؟ قلتُ: في الدَّرجاتِ والكفَّاراتِ وفي نقلِ الأقدامِ إلى الجمُعاتِ، وإسباغِ الوضوءِ في المَكْروهاتِ، وانتظارِ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاةِ، ومن يحافِظْ عليهنَّ عاشَ بخيرٍ وماتَ بخيرٍ، وَكانَ من ذنوبِهِ كَيومِ ولدتهُ أمُّهُ). (صحيح الترمذي:3234)
فكشف الله الغيب لنبيه ولا يعني أنه يعلم الغيب كله لأن الله يقول: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ). (سورة الأنعام:59)
وهذه المفاتيح هي ماذكره الله في آخر لقمان حيث يقول: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). (سورة لقمان:34)
والشرح منة ونعمة جليله حيث إن موسى عليه السلام سألها فقال تعالى: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)). (سورة طه)
اقرأ أيضا: كم مرة ذكرت مصر في القرآن الكريم
(وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2))
الوزر الحمل الثقيل وليس هناك أثقل من هم تبليغ الرسالة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يفرح بإيمان الناس وكان يغتم لعدم إيمانهم فأنزل الله تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)). (سورة الشعراء)
فأمره الله أن يشتغل فيما كلف به بالدلالة والإرشاد ولا ينشغل بتوفيقهم فلا يملك التوفيق إلا الله، وأبسط مثال دعوته لعمه، قال تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). (سورة القصص:56)
(الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3))
قال: ذنبك الذي أنقض ظهرَك، أثقل ظهرك، ووضعناه عنك، وخفَّفنا عنك ما أثقل ظهرَك، وأي ذنب كان له ولم يلحظ عليه الجاهليون إلا الصدق والأمانة حيث تفوقه عليهم بهذين.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4))
ورفعنا لك ذكرك، فلا أُذْكَرُ إلا ذُكِرْتَ معي، وذلك قول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
قال الشاعر:
أغر عليه النبوة خاتم | من الله يلوح ويشهد | |
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه | إذ يقول في الخمس المؤذن أشهد | |
وشق له من اسمه ليجله | فذو العرش محمود وهذا محمد |
فأي ذكر مرفوع مثل هذا فجميع بلاد الدنيا فيها من فيها ممن يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله.
اقرأ أيضا: تعريف السيرة النبوية لغة واصطلاحا
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6))
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فإنّ مع الشدّة التي أنت فيها من جهاد هؤلاء المشركين، ومن أوّله ما أنت بسبيله رجاء وفرجا بأن يُظْفِرَكَ بهم، حتى ينقادوا للحقّ الذي جئتهم به طوعا وكَرها.
ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية لما نزلت، بَشَّر بها أصحابه وقال: (لنْ يغلبَ عسرٌ يسرينِ). (الجامع الصغير:7374)
ومن علوم القرآن الكريم علم التعريف والتنكير: ومنه أنه إذا ذكر الاسم مرتين فله أربع أحوال: لأنه إما أن يكونا معرفتين، أو نكرتين، أو الأول نكرة والثاني معرفة، أو بالعكس.
1/ فإن كانا معرفتين فالثاني هو الأول غالبًا كقوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). (سورة الفاتحة)
2/ وإن كانا نكرتين فالثاني غير الأول غالبًا كقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً). (سورة الروم:54)
فإن المراد بالضعف الأول النطفة، وبالثاني الطفولة، وبالثالث الشيخوخة، والقوة الأولى قوة الشباب حماس وتهور والثانية قوة الكهولة حكمة وتأني، وقد اجتمع القسمان في قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)).
ولذلك رُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: (لنْ يغلبَ عسرٌ يسرينِ) لأن العسر الثاني أعاده بـ “الـ”، فكان عين الأول، ولما كان اليُسر الثاني غير الأول لم يعده بـ “الـ”.
3/ وإن كان الأول نكرة، والثاني معرفة، فالثاني هو الأول حملًا على العهد كقوله تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ). (سورة المزمل)
4/ وإن كان الأول معرفة، والثاني نكرة، توقف المراد على القرائن: فتارة تقوم قرينة على التغاير، كقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ). (سورة الروم:55)
وتارة تقوم قرينة على الاتحاد، كقوله تعالى: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا). (سورة الزمر)
اقرأ أيضا: خطبة عن إتقان العمل في الإسلام
(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7))
روى الطبري عن ابن عباس: فإذا فَرعت من صلاتك، فانصب إلى ربك في الدعاء، وسله حاجاتك.
كذلك روى الطبري عن الحسن: فإذا فرغت من غزوك، فانصب لعبادة ربك.
وروى الطبري عن مجاهد، في قوله: (فَإِذَا فَرَغْتَ) قال: إذا فرغت من أمر الدنيا، وقمت إلى الصلاة، فاجعل رغبتك ونيتك له.
وفي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأتي بالبطالة إنما أتى بالعمل لينهض الناس، وكان ينصح أهل المسألة بالعمل حتى يحفظ ماء وجهه.
ورد في سنن أبي داود بإسناد يحتمل التحسين عن أنس بن مالك، أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال صلى الله عليه وسلم: (لَكَ فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟). قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقدح نشرب فيه الماء. فقال صلى الله عليه وسلم: (ائْتِنِي بِهِمَا).
قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال: (مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟). فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؟). قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه.
وأخذ الدرهمين، فأعطاهما الأنصاري، وقال: (اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا، فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ).
ففعل فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشد فيه عودا بيده، وقال: (اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ، وَلَا أَرَاكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا).
فجعل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فقال: (اشْتَرِ بِبَعْضِهَا طَعَامًا، وَبِبَعْضِهَا ثَوْبًا)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ وَالْمَسْأَلَةُ نُكْتَةٌ فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ).
وأقول: إن الله تعالى كأنه ذكر أسباب التيسير بعد الآية فأسباب التسير مداومة العمل والدعاء.
في العمل الدنيوي ورد عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنْ قامَتِ الساعةُ وفي يدِ أحدِكمْ فَسِيلةٌ، فإنِ استطاعَ أنْ لا تقومَ حتى يَغرِسَها فلْيغرِسْهَا). (صحيح الجامع:1424)
وفي أعمال الآخرة كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: (أدْوَمُهَا وإنْ قَلَّ) وقال: (اكْلَفُوا مِنَ الأعْمَالِ ما تُطِيقُونَ). (صحيح البخاري:6465)
وكما أوصى صلى الله عليه وسلم بالعمل أوصى بإتقانه فقال: (إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ). (صحيح الجامع:1880)
(وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب (8))
أي عند العمل اجعل رجاءك في القبول.