خطبة عن المواساة في الإسلام بعنوان (تنبيه الساه لأدب المواساة) للشيخ محمد نبيه يوضح فيها معنى المواساة وصورها وثمراتها ويبين وسائل المواساة في الإسلام.
مقدمة الخطبة
الحمد لله، وفّق من شاء للإحسان وهدى، وتأذن بالمزيد لمن راح في المواساة أو غدَا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةً أرجو بها نعيمًا مؤبَّدا.
وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله أندى العالمين يداً وأكرمهم محتِدا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه أهل التراحم والاهتداء وبذل الكف والندى، ومن تبعهم بإحسان ما ليلٌ سجَى وصبح بدَا، وسلّم تسليمًا أبديا سرمدا.
أما بعد: فاتقوا الله ومدُّوا لإخوانكم المحتاجين رِفدًا ويدًا، تُفلِحوا في الدنيا والآخرة إذا ما العرض بدا.
عباد الله: إن خدمة الناس، وتلمس حاجات المستضعفين، دليل على طيب المنبت، ونقاء الأصل، وصفاء القلب، وحسن السريرة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، والساعي لقضاء الحوائج موعود بالإعانة، مؤيد بالتوفيق، وفي بذل الجاه للضعفاء ومساندة ذوي العاهات والمسكنة نفعٌ في العاجل والآجل.
عباد الله: إن الدنيا محن، والحياة ابتلاء، فالقوي فيها قد يضعف، والغني ربما يُفلس، والحي فيها يموت، والسعيد من اغتنم جاهه في خدمة الدين ونفع المسلمين، والمعروف ذخيرة الأبد، والسعي في شؤون الناس زكاة أهل المروءة.
ومن المصائب عند ذوي الهمم عدم قصد الناس لهم في حوائجهم، يقول حكيم بن حزام رضي الله عنه: “ما أصبحت وليس على بابي صاحب حاجة إلا علمت أنها من المصائب”.
ذكر بن قتيبة في عيون الاخبار: أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسَّع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدماه في المشي إليَّ إرادة التسليم عليَّ، فأما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله. قيل: ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمرٌ فبات ليلته يفكر بمن يُنزِله، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي”.
وفي كتاب عمدة الشعر: ﻳﻘﻮﻝ ابن عباس:
ﺇﺫا ﻃﺎﺭﻗﺎﺕ ﻟﻬﻢّ ﺿﺎﺟﻌﺖ اﻟﻔﺘﻰ | ﻭﺃﻋﻤﻞ ﻓﻜﺮ اﻟﻠﻴﻞ ﻭاﻟﻠﻴﻞ ﻋﺎﻛﺮ | |
ﻭﺑﺎﻛﺮﻧﻲ ﻓﻲ ﺣﺎﺟﺔ ﻟﻢ ﻳﺠﺪ ﺑﻬﺎ | ﺳﻮاﻱ ﻭﻻ ﻣﻦ ﻧﻜﺒﺔ اﻟﺪﻫﺮ ﻧﺎﺻﺮ | |
ﻓﺮﺟﺖ ﺑﻤﺎﻟﻲ ﻫﻤﻪ ﻣﻦ ﻣﻘﺎﻣﻪ | ﻭﺯاﻳﻠﻪ ﻫﻢّ ﻃﺮﻭﻕ ﻣﺴﺎﻣﺮ | |
ﻭﻛﺎﻥ ﻟﻪ ﻓﻀﻞ ﻋﻠﻲ ﺑﻈﻨﻪ | ﺑﻲ اﻟﺨﻴﺮ ﺇﻧﻲ ﻟﻠﺬﻱ ﻇﻦ ﺷﺎﻛﺮ |
واعلموا عباد الله أن دروب الخير كثيرة، وأنواع البر متعددة، ومجالات الإحسان متنوعة، ومن أعظم ذلك: السعي في حوائج المسلمين، والإحسان إلى المؤمنين؛ من إطعام للجائع، وكسوة للعاري، وعيادة للمريض، وتعليم للجاهل، وإنظار للمعسر، وإعانة للعاجز، وإسعاف للمنقطع، وكفالة لليتيم، وتفريج للهمّ، وشفاعة في الخير، وخير الناس أنفعهم للناس.
اقرأ أيضا: خطبة عن جبر الخواطر
معنى المواساة
المواساة: هي معاونة الأصدقاء والمستحقين، ومشاركتهم في الأموال والأقوات. (تهذيب الأخلاق – أحمد بن مسكويه – صـ 31)
الفرق بين المواساة والإيثار أن المواساة: أن ينزل الإنسان غيره منزلة نفسه في كل شيء، أما الإيثار: أن يقدم الإنسان غيره بالشيء على نفسه، مع حاجته إليه. (التعريفات – لعلي الجرجاني – صـ 236)
المواساة مشاركة في المشاعر والوجدان، المواساة لا تقتصر على مشاركة المسلم لأخيه المسلم في المال أو الخدمة والنصيحة أو غير ذلك، ولكن المواساة تعني أيضًا مشاركة المسلم لأخيه في مشاعره، خاصة في أوقات حزنه، وعند تعرضه لما يعكر عليه حياته.
وهنا فإن إدخال السرور على المسلم وتطييب خاطره بالكلمة الطيبة، أو المشاركة الوجدانية هومن أعظم المواساة، وأجل أنواعها، وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يواسي أصحابه في جميع أحوالهم.
صور المواساة
مواساة يوسف لأخوته
(وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ ۚ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59)). (سورة يوسف)
مواساة موسى بن عمران لبنات شعيب
(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)). (سورة القصص)
مواساة الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم
أرسل الله تعالى نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، فوجد منهم نفورًا وإعراضًا، وتصدى له قوم غلاظ الأكباد، تعرضوا له بصنوف الأذى.
فكان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة بعد فترة، مواساةً للنبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيتًا لقلبه على الحق، وتقوية لعزيمته للمضي في طريق دعوته.
وبين الله تعالى له صلى الله عليه وسلم نصرته سبحانه للأنبياء السابقين الذين كُذِّبوا وأُوذوا فصبروا حتى جاءهم نصر الله فيجد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك تسلية ومواساة قال سبحانه: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا). (سورة الأنعام)
وكان الله تعالى يأمره صلى الله عليه وسلم بالصبر؛ قال جل شأنه: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). (سورة الأحقاف:35)
وكان سبحانه يبشره بآيات المنعة والنصر؛ قال تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). (سورة المائدة:67)
وقال جل شأنه لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا). (سورة الفتح:3)
وقال سبحانه: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). (سورة المجادلة:21)
وهكذا كانت آيات القرآن الكريم تنزل مواساةً لنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
فالمسلم يحتاج من أخيه إذا نزلت به ضائقة أن يواسيه ويسليه، يحتاج من أخيه إذا نزل به همٌّ وغمٌّ أن يثبته، فإن القلوب إذا نزلت بها المصائب تزلزلت، إلا أن يثبتها الله جل وعلا من عنده، فإذا جاء العبد الصالح وذكّر أخاه بما عند الله من الأجر والمثوبة كان ذلك من أعظم المعروف الذي يسديه إليه.
ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى والنموذج الأسمى والأوفى في ذلك، ولا عجب فهو الذي وصفه ربه فقال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). (سورة التوبة:128)
وقال في حقه أيضاً: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). (سورة آل عمران:159)
لذا فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمد يد الرأفة والعطف ليمسح بها دمعة الباكي ويخفف بها لوعة الشاكي ولكي يفتح باب الأمل لكل مصاب ويثبت يقين كل مرتاب علمنا صلى الله عليه وسلم الصبر على الشدائد وحبب إلينا ثواب الصابرين تصديقاً لقول الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)). (سورة البقرة)
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ). (صحيح البخاري:5641)
بل علمنا صلى الله عليه وسلم مواسياً بأن الابتلاءات والأمراض كفارات وسبب لتخفيف العذاب عن العبد يوم القيامة، روى الترمذي في سننه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ، عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ، أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ، حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
روى أحمد في مسنده بإسناد صحيح لغيره عن الحسن البصري، عن عبد الله بن مغفل؛ أن رجلا لقي امرأة كانت بغيا في الجاهلية، فجعل يلاعبها حتى بسط يده إليها، فقالت المرأة: مه، فإن الله عز وجل، قد ذهب بالشرك – وقال عفان مرة: ذهب بالجاهلية – وجاءنا بالإسلام، فولى الرجل، فأصاب وجهه الحائط، فشجه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: (أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، بِعَبْدٍ خَيْرًا، عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا، أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ، حَتَّى يُوَافَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ عَيْرٌ). (تخريج المسند:16806)
اقرأ أيضا: أحب الأعمال إلى الله تعالى
مواساة الرسول صلى الله عليه وسلم
مواساة الرسول لمن ابتلي بفقد عزيز
ومن الأمثلة على مواساته صلى الله عليه وسلم لمن ابتلي بفقد عزيز عليه ما فعله مع جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه حينما استشهد أبوه في غزوة أحد.
روى ابن ماجه عن طلحة بن خراش، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام، يوم أحد، لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يَا جَابِرُ، أَلاَ أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللهُ لأَبِيكَ؟) وقال يحيى في حديثه: فقال: (يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟) قال: قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالا ودينا، قال: (أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟) قال: بلى، يا رسول الله، قال: (مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ، تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لاَ يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ، تَعَالَى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)). (صحيح ابن ماجه:158)
مواساة الرسول للمرأة التي توفي ولدها فوقفت تبكي على قبره
في الصحيحين عن ثابت قال: سمعت أنس بن مالك يقول لامرأة من أهله: تعرفين فلانة؟ قالت: نعم، قال: فإن النبي صلى الله عليه وسلم مر بها وهي تبكي عند قبر، فقال: (اتَّقِي اللَّهَ، واصْبِرِي)، فقالت: إليك عني، فإنك خلو من مصيبتي، قال: فجاوزها ومضى، فمر بها رجل فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ما عرفته؟ قال: إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابا، فقالت: يا رسول الله، والله ما عرفتك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أوَّلِ صَدْمَةٍ). (صحيح البخاري:7154)
وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى على امرأة تبكي على صبي لها، فقال لها: (اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي)، فقالت: وما تبالي بمصيبتي فلما ذهب، قيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها مثل الموت، فأتت بابه، فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك، فقال: (إنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ)، أو قال: (عِنْدَ أَوَّلِ الصَّدْمَةِ). (صحيح مسلم:926)
مواساة الرسول لأم سليم زوجة أبي طلحة الأنصاري
روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: أن أبا طلحة مات له ابن، فقالت أم سليم: لا تخبروا أبا طلحة، حتى أكون أنا الذي أخبره، فسجت عليه، فلما جاء أبو طلحة، وضعت بين يديه طعاما، فأكل، ثم تطيبت له، فأصاب منها، فعلقت بغلام، فقالت: يا أبا طلحة، إن آل فلان استعاروا من آل فلان عارية، فبعثوا إليهم: ابعثوا إلينا بعاريتنا، فأبوا أن يردوها، فقال أبو طلحة: ليس لهم ذلك، إن العارية مؤداة إلى أهلها، قالت: فإن ابنك كان عارية من الله، عز وجل، وإن الله، عز وجل، قد قبضه، فاسترجع. قال أنس: فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (بَارَكَ اللَّهُ لَهُمَا فِي لَيْلَتِهِمَا). قال: فعلقت بغلام فولدت، فأرسلت به معي أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحملت تمرا، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه عباءة، وهو يهنأ بعيرا له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هَلْ مَعَكَ تَمْرٌ؟) قال: قلت: نعم، فأخذ التمرات فألقاهن في فيه، فلاكهن، ثم جمع لعابه، ثم فغر فاه فأوجره إياه، فجعل الصبي يتلمظ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حُبُّ الأَنْصَارِ التَّمْرُ)، فحنكه، وسماه عبد الله، فما كان في الأنصار شاب أفضل منه.
مواساة الرسول في وفاة ابن عمه جعفر بن أبي طالب
في الصحيحين عن عمرة، أنها سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ابن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف فيه الحزن، قالت: وأنا أنظر من صائر الباب، شق الباب، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، إن نساء جعفر، وذكر بكاءهن، فأمره أن يذهب فينهاهن، فذهب، فأتاه فذكر أنهن لم يطعنه، فأمره الثانية أن يذهب فينهاهن، فذهب، ثم أتاه فقال: والله، لقد غلبننا يا رسول الله، قالت فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اذْهَبْ فَاحْثُ في أَفْوَاهِهِنَّ مِنَ التُّرَابِ)، قالت عائشة: فقلت: أرغم الله أنفك، والله، ما تفعل ما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء. (صحيح مسلم:935)
وروى أحمد في مسنده والترمذي في سننه عن الحسن بن سعد عن عبد الله بن جعفر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جيشا استعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: (فإن قُتِلَ زيدٌ – أوِ استُشهِدَ – فأميرُكم جعفرٌ فإن قُتِلَ – أوِ استُشهِدَ – فأميرُكم عبدُ اللَّهِ بنُ رواحةَ)، فلقوا العدو فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه وأتى خبرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: (إنَّ إخوانَكم لقوا العدوَّ وإنَّ زيدًا أخذَ الرَّايةَ فقاتلَ حتَّى قُتِلَ – أوِ استشهِدَ – ثمَّ أخذَ الرَّايةَ بعدَهُ جعفرُ بنُ أبي طالبٍ فقاتلَ حتَّى قُتِلَ – أوِ استشهِدَ – ثمَّ أخذَ الرَّايةَ عبدُ اللَّهِ بنُ رواحةَ فقاتلَ حتَّى قُتِلَ – أوِ استشهِدَ – ثمَّ أخذَ الرَّايةَ سيفٌ من سيوفِ اللَّهِ خالدُ بنُ الوليدِ ففتحَ اللَّهُ عليهِ فأمهلَ ثمَّ أمهلَ آلَ جعفرٍ – ثلاثًا – أن يأتيَهم ثمَّ أتاهم فقالَ: لا تبكوا على أخي بعدَ اليومِ ادعوا إلي ابنيِ أخي)، قال فجيء بنا كأنا أفرخ فقال: (ادعوا ليَّ الحلَّاقَ)، فجيء بالحلاق فحلق رؤوسنا ثم قال: (أمَّا محمَّدٌ فشبيهُ عمِّنا أبي طالبٍ وأمَّا عبدُ اللَّهِ فشبيهُ خُلُقي وخَلْقي)، ثم أخذ بيدي فأشالها فقال: (اللَّهمَّ اخلُف جعفرًا في أهلِهِ وبارِك لعبدِ اللَّهِ في صفقةِ يمينِهِ) – قالها ثلاث مرات – قال: فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا وجعلت تفرح له فقال: (العيلةَ تخافينَ عليهم وأنا وليُّهم في الدُّنيا والآخرةِ). (الصحيح المسند:560)
روى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير، أنه سمع جابرا يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء بنت عميس: (مَا شَأْنُ أَجْسَامِ بَنِي أَخِي ضَارِعَةً؟ أَتُصِيبُهُمْ حَاجَةٌ؟) قالت: لا، ولكن تسرع إليهم العين، أفنرقيهم؟ قال: (وَبِمَاذَا؟) فعرضت عليه، فقال: (ارْقِيهِمْ).
مواساة الرسول للمرضى
في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عاد مريضا قال: (أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ إِنَّكَ أَنْتَ الشَّافِى وَلا شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لا يُغادِرُ سَقَمًا). (صحيح البخاري:5750)
وفي الصحيحين عن عطاء بن أبى رباح قال: قال لى ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبى صلى الله عليه وسلم قالت: إنى أصرع وإنى أتكشف فادع الله لى. قَالَ: (إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ). قالت: أصبر. قالت: فإنى أتكشف فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها. (صحيح مسلم:2576)
روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابى يعوده – قال – وكان النبى صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده فقال له: (لاَ بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ)، قال: قلت: طهور، كلا بل هى حمى تفور – أو تثور – على شيخ كبير، تزيره القبور. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (فَنَعَمْ إذنْ). (صحيح البخاري:5656)
مواساة الرسول للفقراء
في الصحيحين عن جابر بن عبد الأنصاري الذي قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فأبطأ بي جملي، فأتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (يَا جَابِرُ)، قلت: نعم، قال: (مَا شَأْنُكَ؟) قلت: أبطأ بي جملي وأعيا، فتخلفت، فنزل فحجنه بمحجنه، ثم قال: (ارْكَبْ)، فركبت، فلقد رأيتني أكفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أَتَزَوَّجْتَ؟) فقلت: نعم، فقال: (أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟) فقلت: بل ثيب، قال: (فَهَلاَّ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ؟) قلت: إن لي أخوات، فأحببت أن أتزوج امرأة تجمعهن وتمشطهن، وتقوم عليهن، قال: (أَمَا إِنَّكَ قَادِمٌ، فَإِذَا قَدِمْتَ فَالْكَيْسَ الْكَيْسَ)، ثم قال: (أَتَبِيعُ جَمَلَكَ؟) قلت: نعم، فاشتراه مني بأوقية، ثم قدم ر سول الله صلى الله عليه وسلم، وقدمت بالغداة، فجئت المسجد، فوجدته على باب المسجد، فقال: (الآنَ حِينَ قَدِمْتَ؟) قلت: نعم، قال: (فَدَعْ جَمَلَكَ، وَادْخُلْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ)، قال: فدخلت فصليت، ثم رجعت، فأمر بلالا أن يزن لي أوقية، فوزن لي بلال، فأرجح في الميزان، قال: فانطلقت، فلما وليت قال: (ادْعُ لِي جَابِرًا)، فدعيت، فقلت: الآن يرد علي الجمل، ولم يكن شيء أبغض إلي منه، فقال: (خُذْ جَمَلَكَ، وَلَكَ ثَمَنُهُ). (صحيح البخاري:2097)
وفي الصحيحين عن جابر أيضا، قال: هلك أبي، وترك سبع بنات، أو تسع بنات، فتزوجت امرأة ثيبا، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ؟) فقلت: نعم، فقال: (بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟) قلت: بل ثيبا، قال: (فَهَلاَّ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ، وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ؟) قال: فقلت له: إن عبد الله هلك، وترك بنات، وإني كرهت أن أجيئهن بمثلهن، فتزوجت امرأة تقوم عليهن وتصلحهن، فقال: (بَارَكَ اللهُ لَكَ)، أو قال: (خَيْرًا). (صحيح البخاري:5367)
مواساة الرسول للمهموم الحزين
روى أبو داود في سننه بسند ضعيف عن أبى سعيد الخدرى قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة فقال: (يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاَةِ). قال هموم لزمتنى وديون يا رسول الله. قال: (أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَمًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ). قال قلت بلى يا رسول الله. قال: (قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ). قال: ففعلت ذلك فأذهب الله عز وجل همى وقضى عنى ديني. (ضعيف أبي داود:1555)
مواساة الرسول للمعذبين والمظلومين
روى البخاري في صحيحه عن خباب بن الأرت، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له، في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا، فقال: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ، لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ). (صحيح البخاري:6943)
روى البيهقي في شعب الإيمان: عن ابن إسحاق، قال: فحدثني رجال من آل عمار بن ياسر، أن سمية أم عمار عذبها هذا الحي من بني المغيرة على الإسلام، وهي تأبى حتى قتلوها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بعمار وأمه وأبيه، وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة فيقول: (صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ).
مواساة أبي بكر الصِّدِّيق للنبي صلى الله عليه وسلم
روى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ فَقُلتُمْ: كَذَبْتَ، وقَالَ أبو بَكْرٍ: صَدَقَ، ووَاسَانِي بنَفْسِهِ ومَالِهِ، فَهلْ أنتُمْ تَارِكُوا لي صَاحِبِي؟) مرتين، فما أوذي بعدها. (صحيح البخاري:3661)
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما نفعَني مالُ أحدٍ قطُّ ما نفعَني مالُ أبي بكرٍ). (صحيح الترمذي:3661)
مواساة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها، فأحسن الثناء، قالت: فغِرْتُ يومًا، فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق! قد أبدلك الله عز وجل بها خيرًا منها، قال: (ما أبدلني اللَّهُ خيرًا منها قد آمنَتْ بي إذ كفرَ بيَ النَّاسُ وصدَّقتني إذ كذَّبَنيَ النَّاسُ وواسَتْني بمالِها إذ حرمَنيَ النَّاسُ ورزقنيَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ ولدَها إذ حرَمني أولادَ النِّساءِ). (السلسلة الضعيفة:6224)
مواساة أبي بكر وعمر لأم أيمن
قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر! انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها -وأم أيمن هي أم أسامة بن زيد رضي الله عنه- قال: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما دخلا عليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك يا أم أيمن؟!
فأبو بكر وعمر ظنا أنها تبكي لفقدان رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان هو الذي يدخل عليها، فإذا بالذي يدخل عليها الآن رجلان آخران غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شيء يحزن بلا شك، ولكن ما هو سبب حزنها الأكبر؟
قالا لها: ما يبكيك يا أم أيمن؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت أم أيمن: أعلم ذلك، والله إن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي لأن الوحي قد انقطع، فهيجتهما على البكاء فجعلتهما يبكيان معها.
بكت لأن جبريل الذي كان ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام فيوجه المؤمنين: يا أيها الذين آمنوا افعلوا كذا، يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كذا، الذي كان ينزل بما يرقق القلوب، الذي كان ينزل بما يجلي الأمور قد انقطع، فكان هذا سبب الفجيعة الكبرى لأم أيمن، فبكت وبكى أبو بكر وعمر معها رضي الله عنهم.
الشاهد من ذلك: قول أبي بكر لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فأرادا أن يعوضاها عن المصيبة التي ابتليت بها من فقدان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
مواساة صديقات الزوجة وأقاربها
ومن حسن العهد أيضاً ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع أصدقاء خديجة ومع أقارب خديجة.
كانت خديجة أم المؤمنين زوج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكانت من أحب الناس إليه صلوات الله وسلامه عليه، وكانت تواسيه بكلماتها الطيبة في أول بعثته، كقولها: “والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتنصر المظلوم، وتعين على نوائب الحق”، وقدمت له أموالها مواساة ومؤازرة منها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها.
وبعد أن ماتت كان يكثر من الدعاء لها، وكان كلما ذبح ذبيحة من الذبائح أرسل إلى أصدقاء خديجة من هذه الذبيحة، وكان يتعاهد أصدقاء خديجة بالهدايا والعطايا، وكانت هالة بنت خويلد أخت خديجة رضي الله عنها كلما جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذن، ارتاح لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقابلها بحفاوة بالغة وقال: (اللَّهُمَّ هَالَةَ).
وفعله المعروف بأصدقاء خديجة رضي الله عنها.
مواساة آل بيت رسول الله
كان أبو بكر هو الآخر يقول: “ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته”، أي: من أراد أن يحسن إلى رسول الله فليحسن إلى أهل بيته بعد موته صلى الله عليه وسلم.
ويقول أبو بكر لعلي كذلك: “والله يا علي! لأن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ أن أصل من قرابتي”، فهي مواساة لأهل بيت رسول الله بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد نزع من بينهم رسولهم وكبيرهم ومعلمهم وقريبهم محمد صلى الله عليه وسلم، فكان لابد من المواساة.
واقعة أخرى في شأن آل زيد بن حارثة، كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جالساً في المسجد، فرأى شاباً يجر ثوبه ويمشي في المسجد، بطريقة فيها نوع من الفخر لا يكاد يذكر.
الشاهد: أنه قال متغيظاً عليه رضي الله تعالى عنه: من هذا الفتى؟ ويهم ابن عمر رضي الله عنهما أن يقول له قولاً شديداً، فقالوا له: هذا هو أيمن بن أسامة بن زيد، فنكس ابن عمر رأسه في الأرض، وقال: لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبه، وأعرض ابن عمر عن الانتقاد الشديد الذي كان سيوجهه لأيمن بن أسامة بن زيد، مواصلة لمسيرة المحبة لأهل زيد التي بدأها رسولنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
مواساة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسامة بن زيد كان يحبه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حباً جماً هو وأباه، وكما لا يخفى فهو الحب بن الحب، فمات عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فواصل عمر مسيرة الحب لأسامة بن زيد ومسيرة المودة له.
حتى إن عمر رضي الله عنه حين كان يقسم الغنائم والعطاءات كان يقدم البدريين في القسمة على من جاء من بعدهم، وكل بحسب سبقه للإسلام.
فجاء عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد كي يأخذا عطاءهما، فأعطى عمر أسامة بن زيد أكثر من عطيته لابنه عبد الله بن عمر، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: يا أبت! إن أسامة لم يسبقني بمشهد في الإسلام، ولم يسلم قبلي، ولم يسبقني بغزوة من المغازي، فلمَ فضلته عليّ يا أبي؟!
قال عمر: يا بني! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحبه أكثر منك، وكان يحب أباه أكثر من حبه لأبيك؛ فلذلك فضلته عليك!
فواصل عمر رضي الله عنه مسيرة المودة لأسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما.
مواساة الأيتام والأرامل
فهذه معشر الإخوة أنواع من المواساة لمن ابتلوا بفقدان قريب، أو لمن ابتلوا بفقدان عزيز، بأن تواصل معهم الخير الذي كان يعطى، وتواصل معهم رفع المعنويات والمحبة والمودة، وغيرها من أنواع الصلة.
المواساة مشروعة في ديننا بصور أخر، فجعلت التعزية من حقوق المسلم على أخيه المسلم، والصحيح أنها لم تقيد بزمن، ولم تخصص بوقت، فحديث (لا عزاء بعد ثلاث) لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد ورد ما يعكر عليه، ألا وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قتل جعفر أمهل ثلاثاً، ثم ذهب إلى أهل بيته يعزيهم، فذهب إلى أسماء بنت عميس وكان عليه الصلاة والسلام يمسح على رءوس أطفاله اليتامى، ويطمئنهم ويطمئن أمهم.
فأمهم تبكي وتخاف عليهم العيلة، أي: الفقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مطمئناً لهذه الأرملة آنذاك (أتخشين العيلة عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة).
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن جعفر دعوة بقيت له طيلة حياته، قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم بارك لعبد الله بن جعفر في صفقة يمينه) فكان لا يبيع ولا يشتري شيئاً إلا ربح فيه، حتى التراب، فجعل الله له الربح ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشاعر:
وتركي مواساةَ الأخلَّاءِ بالذي | تنالُ يدي ظلمٌ لهم وعقوقُ | |
وإنِّي لأستحيي مِن الله أن أُرَى | بحال اتِّساعٍ والصَّديق مُضيقُ |
فلزاماً علينا أن نواسي من ابتلوا بفقد أبيهم، نواسي الأيتام الذين فقدوا أباً عزيزاً عليهم، كان يدخل عليهم في يومه بما رزقه الله من فاكهة وطعام وشراب فحرموا هذا العطاء، فلابد لهم ممن يواسيهم وهذا من محاسن هذا الدين القيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) وأشار عليه الصلاة والسلام بالسبابة والوسطى.
فليوصل كل من ابتلي، وليعز كل مصاب، وليعد كل مريض، شرعت عيادات المرضى، وشرعت التعازي في الجنائز، وشرع الرفق بالأيتام والحنو عليهم، وشرعت الشفقة على الأرامل؛ شرع كل ذلك تخفيفاً للجراح التي يبتلى بها العباد، وقد أثني على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا كله في جاهليته قبل أن يبعث عليه الصلاة والسلام، يقول أبو طالب في شأن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه | ثمال اليتامى عصمة للأرامل |
مواساة الأنصار للمهاجرين
روى الترمذي بإسناد صحيح عن أنس بن مالك، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، أتاه المهاجرون فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قومًا أبذل من كثيرٍ ولا أحسن مواساةً من قليلٍ – أي من مالٍ قليلٍ – من قومٍ – أي الأنصار – نزلنا بين أظهرهم – أي عندهم -، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ – أي أحسنوا إلينا، سواء كانوا كثيري المال أو فقيري الحال -، حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ ما دعوتُمُ اللَّهَ لَهم وأثنيتُم عليْهِم). (صحيح الترمذي:2487)
قال الطيبي (رحمه الله): قوله صلى الله عليه وسلم: (لا، ما دعوتم الله لهم، وأثنيتم عليهم) معناه: لا؛ أي: ليس الأمر كما زعمتم؛ فإنكم إذا أثنيتم عليهم شكرًا لصنيعهم ودمتم عليه، فقد جازيتموهم.
مواساة أقارب وأصدقاء الوالد
وهذا من حسن العهد، وهذا يؤخذ مما رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه بعد موته).
فمن أفضل أنواع البر: أن تبحث عن الذين كان يصلهم أبوك، وعن الذين كان يساعدهم أبوك، وعن الذين كان يعولهم أبوك، فتواصل المساعدة، وتواصل المعاونة؛ جبراً لكسر هؤلاء الذين فقدوا عزيزاً عليهم، والذين يظنون أن مورداً من موارد الرزق سينقطع عنهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه بعد موته)، فتبحث عن أصدقاء أبيك، وعن أقارب أبيك، فتصلهم كما كان الأب يصلهم.
قال أبو العتاهية (رحمه الله):
اقضِ الحوائجِ ما استطعتَ | وكن لِهَمِّ أخيك فارِجْ | |
فلَخيرُ أيام الفتى | يومٌ قضى فيه الحوائِجْ |
قال الحسن البصري (رحمه الله): “لأن أقضي لأخٍ لي حاجةً: أحبُّ إليَّ من أن أعتكف شهرين”. (قضاء الحوائج لابن أبي الدنيا صـ 48)
مواساة حكيم بن حزام لعيد الله بن الزبير
قال شعبة بن الحجاج: لما توفي الزبير بن العوام، لقي حكيمُ بنُ حزامٍ عبدَالله بن الزبير، فقال: كم ترك أخي من الدَّين؟ قال: ألفَ ألفٍ، قال: علَيَّ خَمْسُمائة ألفٍ. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 3 صـ 50)
مواساة عبد الله بن عامر
قال عبدالله بن محمدٍ الفروي: اشترى عبدالله بن عامر بن كريزٍ من خالد بن عقبة بن أبي معيطٍ داره التي في السوق، ليفتح بها بابه على السوق بثمانين أو تسعين ألفًا، فلما كان من الليل سمع بكاءً، فقال لأهله: “ما لهؤلاء يبكون؟”، قالوا: على دَارِهم، قال: “يا غلام، ايتِهم وأعلمهم أن الدار والمال لهم”. (مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا صـ 86 رقم 351)
مواساة علي بن الحسين
قال أبو حمزة الثمالي: كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول: “إن صدقةَ السر تطفئ غضب الرب عز وجل”. (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني جـ 3 صـ 383)
مواساة أبي حنيفة للعلماء
ذكر الخطيب البغدادي: قال قيس بن الربيع: كان أبو حنيفة يبعث بالبضائع إلى بغداد فيشتري بها الأمتعة ويحملها إلى الكوفة، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدثين وأقواتهم وكسوتهم وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم فيقول: “أنفقوا في حوائجكم، ولا تحمَدوا إلا الله؛ فإني ما أعطيتكم من مالي شيئًا، ولكن من فضل الله عليَّ فيكم، وهذه أرباح بضائعكم، فإنه هو والله مما يجريه الله لكم على يدي، فما في رزق الله حَوْلٌ لغيره”. (تاريخ بغداد (١٣/٣٦٢))
مواساة الليث بن سعد لعبد الله بن لهيعة
روى أبو نعيم عن يحيى بن بكيرٍ، قال: احترقت دار عبدالله بن لهيعة، فبعث إليه الليث بن سعدٍ بألف دينارٍ. (حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 7 صـ 322)
قال محمد بن علي بن شقيقٍ: أراد جار لأبي حمزة السكري أن يبيع داره، فقيل له: بكم؟ قال: بألفين ثمن الدار، وبألفين جوار أبي حمزة فبلغ ذلك أبا حمزة، فوجه إليه بأربعة آلافٍ، وقال: لا تَبِعْ دارك. (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي – جـ 4 ـ صـ 432)
قال الحاكم النيسابوري: قيل لي: إن عشر غلة – أي مقدار دخله السنوي – ابن أبي ذهلٍ – محمد بن محمدٍ العصمي – تبلغ ألف حمل بعيرٍ، وحدثني أبو أحمد الكاتب أن النسخة بأسامي من يمونهم – يطعمهم – تزيد على خمسة آلاف بيتٍ. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 16 صـ 381)
من الأدلة: روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذا أرْمَلُوا في الغَزْوِ، أوْ قَلَّ طَعامُ عِيالِهِمْ بالمَدِينَةِ جَمَعُوا ما كانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ واحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بيْنَهُمْ في إناءٍ واحِدٍ بالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وأنا منهمْ). (صحيح البخاري:2486)
قال الإمام النووي (رحمه الله): معنى أرملوا: فَنِيَ طعامهم وفي هذا الحديث فضيلة الأشعريين، وفضيلة الإيثار والمواساة، وفضيلة خلط الأزواد – الطعام – في السفر، وفضيلة جمعها في شيء عند قلتها في الحضر ثم يقسم والمراد بالقسمة هنا مواساتهم بالموجود. (مسلم بشرح النووي جـ 16 صـ 61)
ومن أدلة المواساة: روى الشيخان عن النعمان بن بشيرٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى). (صحيح مسلم:2586)
قال ابن أبي جمرة (رحمه الله): الذي يظهر أن التراحم والتوادد والتعاطف وإن كانت متقاربة في المعنى لكن بينها فرق لطيف: فأما التراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضًا بأخوة الإيمان لا بسبب شيءٍ آخر، وأما التوادد فالمراد به التواصل الجالب للمحبة كالتزاور والتهادي، وأما التعاطف فالمراد به إعانة بعضهم بعضًا كما يعطف الثوب عليه ليقويه.
قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل الجسد)؛ أي: بالنسبة إلى جميع أعضائه، ووجه التشبيه فيه التوافق في التعب والراحة قوله: (تداعى)؛ أي: دعا بعضه بعضًا إلى المشاركة في الألم. (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 10 صـ: 439)
قال القاضي عياض (رحمه الله): تشبيهه المؤمنين بالجسد الواحد تمثيل صحيح.
قال القاضي عياض أيضًا: هذا الحديث فيه تقريب للفهم، وإظهار للمعاني في الصور المرئية، وفيه تعظيم حقوق المسلمين، والحض على تعاونهم، وملاطفة بعضهم بعضًا. (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 10 صـ: 493)
وقال ابن أبي جمرة (رحمه الله): شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالجسد، وأهله بالأعضاء؛ لأن الإيمان أصل، وفروعه التكاليف، فإذا أخل المرء بشيءٍ من التكاليف شَانَ ذلك الإخلالُ الأصلَ، وكذلك الجسد أصل كالشجرة، وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضو من الأعضاء اشتكت الأعضاء كلها، كالشجرة إذا ضُرب غصن من أغصانها اهتزت الأغصان كلها بالتحرك والاضطراب. (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 10 صـ: 439)
من الأدلة: روى مسلم عن أبي سعيدٍ الخدري قال: بينما نحن في سفرٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلةٍ له، فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن كانَ معهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا ظَهْرَ له، وَمَن كانَ له فَضْلٌ مِن زَادٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا زَادَ له). (صحيح مسلم:1728)
قال الإمام النووي (رحمه الله): في هذا الحديث الحث على الصدقة والجود والمواساة والإحسان إلى الرفقة والأصحاب، والاعتناء بمصالح الأصحاب، وأمر كبير القوم أصحابه بمواساة المحتاج، وأنه يكتفى في حاجة المحتاج بتعرضه للعطاء وتعريضه من غير سؤالٍ، وهذا معنى قوله: (فجعل يصرف بصره)؛ أي: متعرضًا لشيءٍ يدفع به حاجته، وفيه مواساة ابن السبيل، والصدقة عليه إذا كان محتاجًا، وإن كان له راحلة وعليه ثياب، أو كان موسرًا في وطنه؛ ولهذا يعطى من الزكاة في هذه الحال. (مسلم بشرح النووي جـ 12 صـ 33)
المواساة في عام الرمادة
سمي عام الرمادة بذلك؛ لأن الأرض كلها صارت سوادًا، فشبهت بالرماد. (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 3 صـ 247)
ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال عام الرمادة: لو لم أجد للناس من المال ما يسعهم إلا أن أدخل على كل أهل بيتٍ عدتهم فيقاسمونهم أنصاف بطونهم حتى يأتي الله بحيًا (أي بالخير)، فعلت فإنهم لن يهلكوا عن أنصاف بطونهم. (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 3 صـ: 240)
قال عياض بن خليفة: رأيت عمر بن الخطاب عام الرمادة وهو أسود اللون، ولقد كان أبيض، فيقال: مم ذا؟ فيقول: كان رجلًا عربيًّا، وكان يأكل السمن واللبن، فلما جاع الناس حرمها، فأكل الزيت حتى غير لونه، وجاع فأكثر من الجوع. (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 3 صـ 247)
قال أنس بن مالكٍ: تقرقر بطن عمر بن الخطاب وكان يأكل الزيت عام الرمادة وكان حرم عليه السمن فنقر بطنه بإصبعه قال: تقرقر تقررك، إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحيا الناس. (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 3 صـ 238)
قال زيد بن أسلم: ما أكل عمر بن الخطاب في بيت أحدٍ من ولده ولا بيت أحدٍ من نسائه ذواقًا (أي طعامًا) زمان الرمادة إلا ما يتعشى مع الناس، حتى أحيا الله الناس. (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 3 صـ: 241)
قال زيد بن أسلم (خادم عمر): لما كان عام الرمادة، جاءت العرب من كل ناحيةٍ، فقدموا المدينة، فكان عمر بن الخطاب قد أمر رجالًا يقومون عليهم، ويقسمون عليهم أطعمتهم وإدامهم، وكان عمر قد جعل كل رجلٍ منهم على ناحيةٍ من نواحي المدينة، فإذا أمسَوُا اجتمعوا عند عمر فيخبرونه بكل ما حدث وسمعت عمر يقول ليلةً وقد تعشى الناس عنده: (أحصوا من تعشى عندنا)، فأحصَوهم من الليلة القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجلٍ، وقال: (أحصوا العيالات الذين لا يأتون، والمرضى، والصبيان)، فأحصوا فوجدوهم أربعين ألفًا، ثم مكثنا ليالي فزاد الناس، فأمر بهم فأحصوا فوجدوا من تعشى عنده عشرة آلافٍ، والآخرين خمسين ألفًا، فما برحوا حتى أرسل الله السماء، فلما مطرت رأيت عمر قد وكل كل قومٍ من هؤلاء النفر بناحيتهم يخرجونهم إلى البادية، ويعطونهم قوتًا وحملانًا إلى باديتهم، ولقد رأيت عمر يخرجهم هو بنفسه. (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 3 صـ: 240)
من أثار المواساة: إن المسلمين الأوائل قد طبقوا المواساة بمعناها الشامل، فتغلبوا – بفضل الله تعالى – على ما قابلهم من أزمات، وحل الرخاء محل الجدب، وأصبح كل مسلم آمنًا على نفسه ومأكله ومسكنه وأولاده وأمواله.
مواساة المسلمين لغير المسلمين
إن الذين يسعون إلى تقرير المواساة والتكافل الاجتماعي لن يجدوا تكافلًا اجتماعيًّا أعظم من كفالة الإسلام لغير المسلمين، الذين يعيشون على أرضه، وفي ظل عدل الإسلام وسماحته الإسلام يتسامى بمن يعيشون في جواره – أيًّا كانت ديانتهم وجنسياتهم -، ويحوطهم برحمته وإحسانه عندما يحتاجون إلى مواساة لأي سبب من الأسباب، بل يجعل لهم مرتبات من بيت مال المسلمين.
إن التكافل الاجتماعي في الإسلام لا يرضى أن يذل رجلًا من غير المسلمين، وهو يحيا في رحاب الإسلام، فيعيش على صدقات الناس، ولكن الإسلام يحميه ويكرمه، ويوجب على الدولة أن تتولى رعاية أسرته.
قال الله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). (سورة الممتحنة:8)
قال الإمام ابن جرير الطبري: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) من جميع أصناف الملل والأديان أن تبَرُّوهم وتصِلوهم، وتقسطوا إليهم، إن الله عز وجل عم بقوله: (الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) جميعَ مَن كان ذلك صفتَه، فلم يخصص به بعضًا دون بعضٍ. (تفسير ابن جرير الطبري جـ 25 صـ 611)
وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) يقول: إن الله يحب المُنصِفين الذين يُنصِفون الناس، ويعطونهم الحق والعدل من أنفسهم، فيَبَرُّون من بَرَّهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم. (تفسير ابن جرير الطبري جـ 25 صـ 612)
قال الإمام القرطبي (رحمه الله): دخل ذمي (رجل من غير المسلمين) على إسماعيل بن إسحاق القاضي فأكرمه، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك، فتلا هذه الآية عليهم؛ (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). (تفسير القرطبي جـ: 18 صـ 59: 58)
صور مشرقة لمواساة غير المسلمين
(١) روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما، قالت: قدِمَتْ علَيَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: (نَعم، صِلِي أمَّكِ). (صحيح البخاري:2620)
قال الإمام ابن حجر العسقلاني (رحمه الله): (وهي راغبة)؛ أي: طالبةً في بر ابنتها لها، خائفة من ردها إياها خائبة. (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 5 صـ 277)
(٢) روى البخاري عن أنسٍ رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدُمُ النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعُوده، فقعد عند رأسه، فقال له: (أسْلِمْ)، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطِعْ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلَم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار). (صحيح البخاري:1356)
(٣) روى البخاري في الأدب المفرد عن مجاهد بن جبرٍ قال: كنت عند عبدالله بن عمرٍو بن العاص – وغلامه يسلخ شاةً – فقال: يا غلام، إذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي، فقال رجل من القوم: اليهوديُّ، أصلحك الله؟ قال: إني سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار، حتى خشينا أو رُئِينا أنه سيورِّثُه. (صحيح الأدب المفرد للألباني حديث 95)
(٤) قال عبدالله بن أبي حدرد: لما قدمنا مع عمر بن الخطاب الجابية – مكان -، إذا هو بشيخ من أهل الذمة يستطعم، فسأل عنه فقلنا: يا أمير المؤمنين، هذا رجل من أهل الذمة كبر وضعف، فوضع عنه عمر الجزية التي في رقبته، وقال: كلفتموه الجزية حتى إذا ضعف تركتموه يستطعم، فأجرى عليه من بيت المال عشرة دراهم، وكان له عيال. (تاريخ دمشق – لابن عساكر – جـ 27 صـ 334)
(٥) كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه (في عقد الذمة لأهل الحيرة بالعراق، زمن خلافة أبي بكرٍ الصديق): وجعلت لهم أيما شيخٍ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة، أو كان غنيًّا فافتقر وصار أهل دِينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعِيلَ من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام. (الخراج لأبي يوسف صـ 144)
(٦) كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن أرطاة (أمير البصرة): انظر من عندك من أهل الذمة قد كبِرَت سنُّه، وضعفت قوته، وولَّتْ عنه المكاسب، فأَجْرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يُصلِحُه، فلو أن رجلًا من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقُوتَه حتى يفرِّق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مرَّ بشيخٍ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: (ما أنصفناك، أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك)، قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه. (الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام صـ 50)
اقرأ أيضا: خطبة عن السلام
وسائل المواساة في الإسلام
للمواساة والتكافل بين الناس في الإسلام وسائل كثيرة، منها:
(١) الزكاة المفروضة
الزكاة هي الركن الاجتماعي البارز من أركان الإسلام، وهي الحق المعروف في أموال الأغنياء، وتعتبر الزكاة وقاية اجتماعية وضمانة للعاجز الذي يبذل جهده ثم لا يجد ما يسد حاجته الضرورية من المسكن والمأكل والملبس وما شابه ذلك. (التأمين – للدكتور كنعان محمد عليان – صـ 181: صـ 186)
وقد حدد الله تعالى ثمانية أصناف من الناس تُصرَف لهم زكاة الأموال، قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (سورة التوبة:60)
(٢) الصدقات الاختيارية
حثنا الإسلام على الصدقات من أجل سد حاجة الفقراء والمساكين، وتدعيمًا لأواصر الأخوة بين المسلمين، وتحقيقًا للمواساة وللتكافل بينهم في داخل المجتمع المسلم.
قال تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). (سورة البقرة:177)
لقد اعتبر القرآن الكريم الصدقة قرضًا لله تعالى مضمون الوفاء، قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (سورة البقرة:245)
وقال سبحانه: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). (سورة سبأ:39)
(٣) الصدقات الواجبة
من صور المواساة والتكافل في الإسلام: أن الشريعة الإسلامية قد أمرت بأنواع من الصدقات الواجبة التي يجب على المسلم الذي تنطبق عليه شروطها إخراجها، من هذه الصدقات الواجبة: صدقة الفِطر والكفارات، وهي عقوبات قدرها الشرع الشريف عند ارتكاب أمر فيه مخالفة لأوامر الله تعالى، ومن ذلك:
- كفارة القتل الخطأ.
- كفارة اليمين المنعقدة.
- كفارة الظِّهار.
- كفارة الأذى للمحرِم بالعمرة أو الحج.
- كفارة مَن جامع زوجته قبل التحلُّل.
- كفارة من أفسد صومه بالجماع في نهار رمضان عمدًا.
- كفارة من انصرف من عرفة قبل غروب الشمس.
- كفارة من لم يَبِتْ بمزدلفة.
- كفارة المحصر إذا لم يشترط.
- كفارة من ترك الميقات من غير إحرام.
- كفارة صيد البر للمحرِم.
- كفارة لبس المخيط في الحج أو العمرة.
- كفارة قطع شجر الحرم ونباته.
- كفارة العاجز دائمًا عن صوم رمضان.
- كفارة العجز عن الوفاء بالنذر.
ومن الصدقات الواجبة أيضًا: الهدي بالنسبة للقارن والمتمتع بالحج والعمرة، ومنها أيضًا: النذور، وهناك صدقات واجبة غير ذلك والهدف من هذا كله هو طاعة الله تعالى، والتوسعة على الفقراء والمحتاجين.
إن تعاليم الشريعة الإسلامية تهدف إلى تحقيق التكافل بين الأفراد في جميع نواحي الحياة والفرد في المجتمع المسلم جزء من كل، الفرد مسؤول عن الجماعة، والجماعة مسؤولة عنه.
فهل بعد هذه الكفالات والضمانات الموجودة في الشريعة الإسلامية المباركة، نحتاج إلى البحث عن ضمانات أخرى أو قوانين بشرية تنظم لنا أمور حياتنا وتؤمن لنا مستقبل حياتنا؟! (التأمين – للدكتور كنعان محمد عليان – صـ 186: صـ 190)
اقرأ أيضا: خطبة عن رحمة الله بعباده
ثمرات المواساة
يمكن أن نوجز ثمرات المواساة في الأمور التالية:
- المواساة تكسب المسلم حب الله تعالى، ثم حب الناس.
- المواساة دليل حب الخير للناس.
- المواساة تشيع روح الأخوة الصادقة بين المسلمين.
- المواساة تقوِّي العلاقات بين جميع المسلمين.
- المواساة تساعد على قضاء حاجات المحتاجين.
- المواساة تدخل السرور على المسلم.
- المواساة تجعل صاحبها من المسرورين يوم القيامة.
- المواساة مِن أحب الأعمال الصالحة إلى الله تعالى.
- المواساة تدعو إلى الأُلفة، وتؤكد معنى الإخاء، وتنشر المحبة بين أفراد المجتمع.
- المواساة تُذهِب الحسد، وتميت الأحقاد من قلوب الناس. (موسوعة نضرة النعيم جـ 8 صـ 3469)
أسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه وأن ينفع به.
جمعه راجي عفو ربه: (أبو عرفات محمد بن نبيه آل ضيف الله) الواعظ بالأزهر الشريف