خطبة عن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد نبيه يبين فيها مواقف تجلت فيها رحمة النبي عليه الصلاة والسلام بأصحابه الكرام وبأمته.
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم
إخوتي الكرام النبي عليه الصلاة وأزكى السلام أرحم خلق الله بخلق الله، وصفة الرحمة في القرآن الكريم جاءت صريحة ومشتقاتها في نحو من ثلاثمائة وخمسة عشر موضعا وهذا فيه دلالة على أن الله تعالى رحم العالمين بمحمد عليه الصلاة وأزكى التسليم.
لذلك سنتناول جانب رحمة النبي صلى الله عليه وسلم من خلال حديثين شريفين.
حديث رحمة النبي بالأعراب
في صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث جرير بن عبدالله البجلي رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر.
فتمعر وجه رسول الله عليه الصلاة والسلام لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إلى آخر الآية، (إنَّ اللَّهَ كانَ علَيْكُم رَقِيبًا) (سورة النساء:1) والآية التي في الحشر: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ). (سورة الحشر:18) تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال، ولو بشق تمرة).
قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بهَا بَعْدَهُ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أُجُورِهِمْ شيءٌ، وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كانَ عليه وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَن عَمِلَ بهَا مِن بَعْدِهِ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أَوْزَارِهِمْ شيءٌ). (صحيح مسلم:1017)
اقرأ أيضا: خطبة عن رحمة الله بعباده
قصة قوم من مضر
هذه الرواية إخوتي الكرام فيها قصة وهي أن قوماً من مضر جاءوا في هيئة رثة حفاة عراة عليهم نمار أو عباءة والنمار ثياب مخططة كان يغلب على الأعراب لبسها.
قوم حفاة عراة فيهم أثر الفقر والفاقة فلما رآهم النبي عليه الصلاة والسلام تمعر وجهه، والتمعر يعني التغير تغير وجهه ورق لحالهم ثم استحث الناس على الصدقة لتحسين أوضاعهم وأحوالهم.
تعالى لنسقط هذه الجزئية على الواقع الذي نعيشه: ضرب الوباء العالم كله وزادت نسبة الضعف والفاقة عند كثير من الناس وبعد أن تجلت الغمة وانكشفت للأسف الشديد لم يعتبر الناس بما كان بل عادوا إلى أسوء ما كانوا عليه.
تاقت نفوسهم للبدعة ولم تتق نفوسهم للسنة إقبال شديد على إقامة الأفراح بالصخب والترف الذي كانوا عليه من قبل ولم نرهم أبداً وقفوا في جوار الضعاف ما رأيناهم سعوا في كشف الفاقة عن الناس.
النبي عليه الصلاة وأزكى السلام رق لما رأى على بعض أصحابه من الفاقة والفقر تغيرت معالم وجهه الشريف لما رأى فيهم من أثر الفقر والفاقة والضعف.
فاستحث أصحابه الكرام على الصدقة لما في الصدقة من منفعة للفقير الصحابة رضي الله عنهم كانوا مثاليين كانوا ايجابيين أسرعوا التنفيذ وأحسنوا الإمتثال.
وقاموا وأتى كل منهم بشيء من ماله بل إن صحابياً من الأنصار أتى بصرة كما وصفها جرير عجزت يده عن حملها وفي الصرة من المال والثياب.
ثم تتابع الناس في البذل الذي جاء أولاً أخذ أجوراً مثل أجور من تلاه ومن أتى بعده وفي هذا فضل البدء بالخير لا شك أن البادئ بالخير له أجره وأجر من فعل مثله إلى يوم القيامة.
ومن ثم ينبغي لك أن تسبق الناس إلى كل خير حتى تحظى بالأجر العميم وهذا يحتم عليك أن تبقى قدوة صالحة في كل مكان تقبع فيه أو تسكن فيه.
إن كنت موظفاً فابدأ بالخير أمام الموظفين من تأسى بك كان في ميزانك يوم القيامة، وإذا كنت في بيتك فكن قدوة صالحة لزوجتك وأولادك يكون في ميزانك يوم القيامة، وإذا كنت في الشارع فكن قدوة صالحة طيبة من يرك ويتأسى بك يأتي في ميزانك يوم القيامة.
هذا يحتم عليك أن تبقى قدوة صالحة في كل مكان لأن البادئ بالخير له أجره وأجر من عمل مثله إلى يوم القيامة، وأولى بك أن تحيا مسلماً بمعتقد صحيح أن تحيا صالح الحال أن تحيا مصلحاً حتى تؤثر في غيرك ويتأسى بك.
من سن سنة سيئة
في الرواية ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها أي فعلة سوء لا تظهر بها على الناس لا تظهر بها أمام من خولك الله أمرهم في الوظيفة ولا تظهر بها أمام أولادك ولا تظهر بها في الشارع وإنما إفعلها في الخفاء وسل الله تعالى أن يقيلك عثرتك.
تحاشا أنظار الناس إليك وأنت على السوء حتى لا يتأسى بك متأسي فيثقل الحمل يوم القيامة وفي هذا دعوة إلى الفضيلة فإذا انتشرت الفضيلة وانتهت الرذيلة تعافى المجتمع وتعافى الناس.
وعندها إذا تعافى المجتمع هدئ حاله وراق باله وعندها يسع الإنسان جاره يصبح الإنسان لجاره أمناً لكن إذا لم يهدأ المجتمع بقي الجار على جاره حرباً.
لذلك أخي الكريم تشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في رحمته وتشبه بالصحابة الكرام في امتثالهم لأمر النبي وفي تراحمهم فيما بينهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: (مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى). (صحيح مسلم:2586)
فرحمة النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الرواية تبدت في جلب خير ينتفع به الفقير في دنياه لذا حثهم على التصدق فتصدقوا.
اقرأ أيضا: خطبة عن الهجرة النبوية
رحمة النبي بأمته
اعلموا إخوتي الكرام أن التعايش بالرحمة يعلي أمر المعيشة، والله تعالى قال في كتابه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). (سورة آل عمران:159)
واعلموا إخوتي الكرام أن النبي عليه الصلاة وأزكى السلام رق لحال الفقير عندما رآه على فقره، بل بكى النبي صلى الله عليه وسلم لحال أمته.
في صحيح الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: (رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فمَن تَبِعَنِي فإنَّه مِنِّي) (سورة إبراهيم: 36) الآية، وقال عيسى عليه السلام: (إنْ تُعَذِّبْهُمْ فإنَّهُمْ عِبادُكَ وإنْ تَغْفِرْ لهمْ فإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (سورة المائدة: 118)، فرفع يديه وقال: (اللهم أمتي أمتي)، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوءك. (صحيح مسلم:202)
علق الإمام النووي رحمة الله تعالى عليه على هذه الجزئية في شرحه على مسلم فقال: لو أن الرواية فيها سنرضيك في أمتك فقط فطريقة الإرضاء يدخل من أمته بعضهم الجنة ثم يدخل الآخرين النار، لكن كلمة سنرضيك ولا نسوءك يعني الأمر ليس الرضا فقط بل الرضا وزيادة والرضا وزيادة حالهم مكشوف وواضح.
فقد روى عوف بن مالك الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً: (أتَدرونَ ما خَيَّرَني ربِّيَ اللَّيلةَ؟) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنَّهُ خَيَّرَني بينَ أن يدخلَ نصفُ أُمَّتي الجنَّةَ، وبينَ الشَّفاعةِ، فاختَرتُ الشَّفاعةَ)، قلنا: يا رسول الله ادع الله أن يجعلنا من أهلها، قال: (هيَ لِكُلِّ مُسلمٍ). (صحيح ابن ماجه:3503)
واختيار الشفاعة معناها: لن يبقى موحد في النار معذباً بل الموحد لو اقترف من الخطايا والذنوب وبقي على التوحيد ولم يخرج عنه وإن عُذب في النار فمآله إلى جنة الرحمن فادعوا الله تعالى أن تموت على الإسلام.
إذا هذه رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بكى من أجلنا ومع هذا لم نبكي يوماً من أجل دينه لم نبكي يوماً من أجل سنته.
اقرأ أيضا: قصة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم
حرص النبي على الصدقة التي تنفع في الآخرة
في سنن أبي داود وسنن الإمام الدارمي رحمة الله تعالى عليهما وعلى جميع علماء الأمة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يصلي وحده فقال: (ألا رجُلٌ يتصدَّقُ على هذا فيصلِّيَ معَهُ). (صحيح أبي داود:574)
لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام حريصاً على الصدقة التي تنفع في الدنيا فقط إنما كان حريصاً كذلك على الصدقة التي تنفع في الآخرة.
وهذه الرواية فيها تفريعات مهمة منها جواز إقامة جماعة بعد الجماعة وهذا في الفقه مخالف لما عليه الجمهور وهو أن الجماعة الواحدة في المسجد ليجتمع الناس على إمامهم.
لكن هناك قول بجواز الجماعة الثانية واستدل بهذه الرواية: أبصر رجلا يصلي يعني بعد صلاة الجماعة أتى مسبوقاً متأخراً فصلى وحده.
إذاً لا تحرمن نفسك صدقة تتصدق بها على فقير ولا تحرمن نفسك أن تتصدق على مصلي.
إذا فهمت الصدقة التي تفيد الفقير في دنياه والصدقة التي تفيد المصلي في أخراه كنت عضواً إيجابياً وعندها ستصبح عضواً حياً في بدن حي، أما من غاب عنه الفهم بقي ميتاً في بدن حي، والعضو الأشل لا يشعر بشيء.
الله أسال بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعمنا برحمته.