خطبة عن شهر رجب والأشهر الحرم بعنوان (النسيء فعل المسيء) للشيخ محمد نبيه يوضح فيها كيفية تعظيم أهل الإسلام لرجب.
ما هي الأشهر الحرم؟
يقول الله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)). (سورة التوبة)
قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) أي إن الله سبحانه وتعالى لما ابتدأ خلق السماوات والأرض جعل السنة اثني عشر شهرا.
وقوله تعالى: (ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ): قال أبو عبيدة: مجازه القائم أي المستقيم، فخرج مخرج سيد، من ساد يسود كقام يقوم.
وقوله تعالى: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ): قال ابن جرير الطبري: ﺣﺪﺛﻨﻲ ﻳﻮﻧﺲ ﻗﺎﻝ، ﺃﺧﺒﺮﻧﺎ اﺑﻦ ﻭﻫﺐ ﻗﺎﻝ، ﻗﺎﻝ اﺑﻦ ﺯﻳﺪ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)، ﻗﺎﻝ: اﻟﻈﻠﻢ اﻟﻌﻤﻞ ﺑﻤﻌﺎﺻﻲ اﻟﻠﻪ، ﻭاﻟﺘﺮﻙ ﻟﻄﺎﻋﺘﻪ.
ﺛﻢ اﺧﺘﻠﻒ ﺃﻫﻞ اﻟﺘﺄﻭﻳﻞ ﻓﻲ اﻟﺬﻱ ﻋﺎﺩﺕ ﻋﻠﻴﻪ (اﻟﻬﺎء)، ﻭ(اﻟﻨﻮﻥ) ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ: (فِيهِنَّ).
ﻓﻘﺎﻝ ﺑﻌﻀﻬﻢ: ﻋﺎﺩ ﺫﻟﻚ ﻋﻠﻰ “اﻻﺛﻨﻰ اﻟﻌﺸﺮ اﻟﺸﻬﺮ”، ﻭﻗﺎﻝ: ﻣﻌﻨﺎﻩ: ﻓﻼ ﺗﻈﻠﻤﻮا ﻓﻲ اﻷﺷﻬﺮ ﻛﻠﻬﺎ ﺃﻧﻔﺴﻜﻢ. قاله ابن عباس.
ﺛﻢ ﺧﺺ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺃﺭﺑﻌﺔ ﺃﺷﻬﺮ ﻓﺠﻌﻠﻬﻦ ﺣﺮاما، ﻭﻋﻈﻢ ﺣﺮماﺗﻬﻦ، ﻭﺟﻌﻞ اﻟﺬﻧﺐ ﻓﻴﻬﻦ ﺃﻋﻈﻢ، ﻭاﻟﻌﻤﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻭاﻷﺟﺮ ﺃﻋﻈﻢ، والظلم في الأربعة الحرم يكون باستحلال القتال، وقيل: بارتكاب المعاصي.
روى ابن جرير الطبري ﻋﻦ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ في ﻗﻮﻟﻪ: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ)، ﻗﺎﻝ: (النَّسِيءُ)، ﻫﻮ ﺃﻥ (ﺟﻨﺎﺩﺓ ﺑﻦ ﻋﻮﻑ ﺑﻦ ﺃﻣﻴﺔ اﻟﻜﻨﺎﻧﻲ)، ﻛﺎﻥ ﻳﻮاﻓﻲ اﻟﻤﻮﺳﻢ ﻛﻞ ﻋﺎﻡ، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﻜﻨﻰ (ﺃﺑﺎ ﺛﻤﺎﻣﺔ)، ﻓﻴﻨﺎﺩﻱ: (ﺃﻻ ﺇﻥ ﺃﺑﺎ ﺛﻤﺎﻣﺔ ﻻ ﻳﺤﺎﺏ ﻭﻻ ﻳﻌﺎﺏ، ﺃﻻ ﻭﺇﻥ ﺻﻔﺮ اﻷﻭﻝ اﻟﻌﺎﻡ ﺣﻼﻝ)، ﻓﻴﺤﻠﻪ اﻟﻨﺎﺱ، ثم يحرم ﺻﻔﺮ ﻋﺎﻣﺎ، ﻭيحرم المحرم ﻋﺎﻣﺎ، ﻓﺬﻟﻚ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ).
ﻭﻗﻮﻟﻪ: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ)، ﻳﻘﻮﻝ: ﻳﺘﺮﻛﻮﻥ اﻟﻤﺤﺮﻡ ﻋﺎﻣﺎ، وﻳحرمونه عاما.
اقرأ أيضا: خطبة عن فضل العشر من ذي الحجة
ما هو ترتيب الأشهر الحرم؟
في الصحيحين عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ الزمانَ قد استدار كهيئتِه يومَ خلَق اللهُ السماواتِ والأرضَ، السنةُ اثنا عشرَ شهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثٌ مُتوالياتٌ، ذو القعدةِ وذو الحجَّةِ والمحرَّمُ، ورجبُ مُضَرَ بين جُمادَى وشعبانَ). (صحيح البخاري:4406) ، (صحيح مسلم:1679)
(إنَّ الزمانَ): يطلق على الوقت قليه وكثيره، والمراد باستدارته وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي الليل والنهار.
(قد استدار كهيئتِه): أي أن السنة عادت كهيئتها الأولى بعد أن كان العرب يؤخرون المحرم عن وقته حتى يتقاتلوا في الأشهر الحرم.
(منها أربعةٌ حُرُمٌ): في رواية: ثلاث متواليات وشهر فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر.
قيل: الحكمة في جعل المحرم أول السنة أن يحصل الابتداء بشهر حرام ويختم بشهر حرام، وتتوسط السنة بشهر حرام وهو رجب، وإنما توالى شهران في الآخر لإرادة تفضيل الختام، والأعمال بالخواتيم.
(ورَجَبُ مُضَرَ الذي بيْنَ جُمادَى وشَعْبانَ): وإنما قيده هذا التقييد مبالغة في إيضاحه وإزالة للبس عنه.
قالوا: وقد كان بين بني مضر وبين ربيعة اختلاف في رجب، فكانت مضر تجعل رجبا هذا الشهر المعروف الآن، وهو الذي بين جمادى وشعبان، وكانت ربيعة تجعله رمضان، فلهذا أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضر، وقيل: لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم.
وقيل: إن العرب كانت تسمي رجبا وشعبان الرجبين، وقيل: كانت تسمي جمادى ورجبا جمادين، وتسمي شعبان رجبا.
وفي الحديث بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض والتحذير من ذلك، قوله صلى الله عليه وسلم: (فلا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا، أوْ ضُلَّالًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ). (صحيح مسلم:1679)
بعض الناس استدلوا بالحديث على جواز التكفير بالمعصية والصحيح أنه لا حجة فيه لمن يقول بالتكفير بالمعاصي، بل المراد به كفران النعم، أو هو محمول على من استحل قتال المسلمين بلا شبهة.
(ألا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغائِبَ): فيه: وجوب تبليغ العلم، وهو فرض كفاية، فيجب تبليغه بحيث ينتشر.
اقرأ أيضا: خطبة عن الإسراء والمعراج
ما هي أسماء شهر رجب؟
رجب في اللغة: مأخوذ من رجبَ الرجلَ رَجباً، وَرَجَبَه يرجُبُه رَجْباً ورُجُوباً ورَجبه وتَرَجَّبه وأرجْبَه كلّه: هابه وَعَظَّمه، فهو مَرْجُوبٌ. (الفيروز آبادي في القاموس المحيط (1/74) وابن منظور في لسان العرب (1/411،412)).
ورجب سموه بذلك لتعظيمهم إياه في الجاهلية حيث كانوا لا يستحلَّون القتال فيه، والترجيب التعظيم، والراجب المعظم لسيده.
لرجب عند العرب أسماء كثيرة منها:
جاء في كتاب: تبيين العجب بما ورد في شهر رجب للحافظ ابن حجر العسقلاني:
قال ابن دحية: رجب. جمعه أرجاب، ورجبانات، وأرجبة وأراجب ورجابي. قال: وله ثمانية عشر اسما:
- رجب؛ لأنه كان يرجب في الجاهلية، أي يعظم.
- الأصم؛ لأنه ما كان تسمع فيه قعقعة السلاح.
- الأصب؛ لأنهم كانوا يقولون: إن الرحمة تصب فيه.
- رجم – بالميم – لأن الشياطين ترجم فيه.
- الشهر الحرام.
- الحرم، لأن حرمته قديمة.
- المقيم؛ لأن حرمته ثابتة.
- المعلى؛ لأنه رفيع عندهم.
- الفرد، وهذا اسم شرعي.
- منصل الأسنة، ذكره البخاري، عن أبي رجاء العطاردي.
- منصل الآل، أي الجواب كما وقع في شعر الأعشى.
- منزع الأسنة.
- شهر العتيرة؛ لأنهم كانوا يذبحون.
- المبرى.
- المعشعش.
- شهر الله.
- سمي رجبا؛ لترك القتال: يقال: أقطع لله الرواجب.
- سمي رجبا؛ لأنه من الرواجب.
فكل هذه الأسماء التي أطلقت على شهر رجب، تدل على تعظيم الكفار لهذا الشهر، ومن تعظيمهم لهذا الشهر الحرام:
- أنهم كانوا يحرمون الاقتتال فيه.
- كان أهل الجاهلية يذبحون في رجب ذبيحة يسمونها العتيرة تعظيماً لرجب.
- وكان أهل الجاهلية يتحرون الدعاء فيه على الظالم وكان يستجاب لهم، ولهم في ذلك أخبار مشهورة، كما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب (مجابي الدعوة).
اقرأ أيضا: خطبة عن الاستعداد لرمضان
كيفية تعظيم أهل الإسلام لرجب
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما بإسناد متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا فَرَعَ ولا عَتِيرَةَ). (صحيح البخاري:5473) ، (صحيح مسلم:1976)
ما هي حقيقة الفرع والعتيرة؟
أما الفرع: فهو أول النتاج كان ينتج لهم، كانوا يذبحونهم لطواغيتهم، وأما العتيرة فذبيحة في رجب كما جاء ذلك مفسرا في بعض طرق حديث أبي هريرة في (الصحيحين) و (المسند).
فإذا ذبح المسلم ذبيحة أول النتاج لوجه الله تعالى، أو ذبح في رجب كما يذبح في غيره دون أن يخصها به، فلا مانع منه.
بل قد جاءت أحاديث تدل على ذلك، من ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الفَرَعِ فقال: (حقٌّ) وسئل عن العتيرة ؟ فقال: (حقٌّ). وإسناده حسن.
وفي حديث آخر: (اذبحوا للَّهِ عز وجل في أيِّ شَهرٍ كانَ). (صحيح ابن ماجه:2582)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وهما من حديث أبي هريرة قد خرجها الألباني في (إرواء الغليل) (1166 – 167).
قال الحافظ: وقد ورد الأمر بالعتيرة في أحاديث كثيرة، وصحح ابن المنذر منها حديثا، وساق البيهقي منها جملة. (تلخيص الحبير:4/149)
الجمع بين هذا وبين حديث أبي هريرة أن المراد الوجوب، أي لا فرع واجب ولا عتيرة واجبة، قاله الشافعي ونص في رواية حرملة أنهما إن تيسر كل شهر كان حسنا.
روى النسائي في سننه بإسناد صحيح عن لقيط بن عامر العقيلي قال: قلت يا رسول الله إنا كنا نذبح ذبائح في الجاهلية في رجب فنأكل ونطعم من جاءنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا بأسَ به) (صحيح النسائي:4244)، قال وكيع بن عدس: فلا أدعه.
روى ابن ماجه في سننه بإسناد صحيح عن نبيشة قال نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب فما تأمرنا؟ قال: (اذبحوا للَّهِ عزَّ وجلَّ في أيِّ شهرٍ كانَ وبرُّوا للَّهِ وأطعِموا)، قالوا: يا رسول الله إنا كنا نفرع فرعا في الجاهلية فما تأمرنا به؟ قال: (في كلِّ سائمةٍ فَرَعٌ تَغذوهُ ماشيتُكَ حتَّى إذا استحمَّل ذبحتهُ فتصدَّقتَ بلحمِهِ) أره قال على ابن السبيل فإن ذلك هو خير. (صحيح ابن ماجه:2582)
وفي إرواء العليل بإسناد صحيح عن عمر رضي الله عنه أنه كان يضرب أكف الناس في رجب، حتى يضعوها في الجفان ويقول: (كُلُوا؛ فإنما هو شهرٌ كان يُعَظِّمُه أهلُ الجاهليَّةِ). (صحح إسناده الألباني في (النصيحة:211)).
روى الترمذي في سننه بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعا إحداهن في رجب.