خطبة عن صفات المؤمنين في القرآن الكريم للشيخ محمد نبيه يوضح فيها أن من صفات المؤمنين الصدع بالحق ويذكر الآيات القرآنية الدالة على ذلك.
من صفات المؤمنين الصدع بالحق
الآيات القرآنية الآمرة بالصدع بالحق، كثيرة جدًّا منها:
قال جل وتقدس: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ). (سورة آل عمران:110)
وقال جل وتقدس: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ). (سورة الحج:41)
وقال جل وتقدس: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). (سورة التوبة:71)
ففي الآيات معاني مهمة هدفنا بيانها لندين لله بها:
أولها: أن خيريةَ هذه الأمة مرهونة بالقيام بشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الشريعةُ شرطٌ في حصول الخيرية، فإن انتفى الشرط لم يتحقق المشروط، واستوى التاركُ من هذه الأمة بغيره من أفراد الملل الأخرى.
فالإبعاد والطردُ النازل على ملة بني إسرائيل وغيرهم من الملل الملعونة المطرودة من رحمة الله إنما حصل بعد تركهم الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)). (سورة المائدة)
ففي الآيةُ أن اللعنَ مترتب على المعصية، ثم بيَّنت المعصية بأنها ترك النهي عن المنكر؛ فهذه الآية تبين قيمة الصدع بالحق، وأنها صفةٌ توجب للعبد الإيمان، وحبَّ الله تعالى له، كما أن تركها يوجب له البُغْض واللعنة والطرد.
وعلامة الطرد أن خيار القوم يتقدمون العامة في الدعاء أيام الفتن ولا يستجاب لهم، وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح عن حذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نَفسي بيدِهِ لتأمُرُنَّ بالمعروفِ، ولتنهَوُنَّ عن المُنكَرِ، أو ليوشِكَنَّ اللهُ أنْ يبعَثَ عليكم عِقابًا منه، ثم تَدْعونَهُ فلا يُستجابُ لكم). (سنن الترمذي:2169)
وهذا الأمر كان السلفُ على بيِّنة منه، وكانوا يتحرَّوْن المنكر وينكرونه بقلوبهم وألسنتهم وأيديهم، ولك مثال في ذلك.
ما أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الأمر بالمعروف ﻋﻦ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ، ﻗﺎﻝ: “ﻛَﺎﻧُﻮا ﺇِﺫَا ﺭَﺃَﻭُا اﻟﺮَّﺟُﻞَ ﻻَ ﻳُﺤْﺴِﻦُ اﻟﺼَّﻼَﺓَ ﻋَﻠَّﻤُﻮﻩُ”، قال سفيان: “ﺃَﺧْﺸَﻰ ﺃَﻥْ ﻻَ ﻳَﺴَﻌَﻬُﻢْ ﺇِﻻَّ ﺫﻟﻚ”.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الأمر بالمعروف عن محمد بن إسحاق، عمن رأى عبدالرحمن الأعرج أنه نظر إلى رجل يصلي في المسجد صلاة سوء، فقال له عبدالرحمن: قُمْ فصلِّ، فقال: قد صليت، قال: لا والله لا تبرح حتى تصلي، قال: ما لك ولهذا يا أعرج؟ قال: والله لتصلين أو ليكونن بيني وبينك أمر يجتمع علينا أهل المسجد، قال: فقام الرجل فصلى صلاة حسنة.
فأنت ترى كيف كان حرص القوم على تغيير المنكر، وكيف كانت شدتهم في ذلك.
وابن أبي الدنيا في الأمر بالمعروف عن معمر، قال: “ﻛَﺎﻥَ ﻳُﻘَﺎﻝُ: ﺃَﻧْﺼَﺢُ اﻟﻨَّﺎﺱِ ﺇِﻟَﻴْﻚَ ﻣَﻦْ ﺧَﺎﻑَ اﻟﻠَّﻪَ ﻓِﻴﻚَ”.
ولو أن أحدًا صنع مثل هذا الصنيع في أيامنا لاتُّهِمَ بالتهور والتخلف، وهذا يدلك على ضعف الغَيرة الدينية، وطمس الهوية الإسلامية، واشتغال كل فرد بشأنه وخاصة أمره.
وعلى هذا فشريعة الأمر بالمعروف هي معلم يدل على هوية الأمة وأن الأمة ذاتٍ واحدة، و أفرادها كتلة منسجمة كأنهم أهل بيت واحد، ولأجل هذا المعنى وصَف الله تعالى المؤمنين بوصف الأخوَّة؛ قال جل وتقدس: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). (سورة الحجرات:10)
فالأخوة تعني شدة التقارب الذي يجب أن يحصل بينهم، حتى تسقط بينهم الكلفة، ويبقى أمرهم على السجية، كما كان الشأن بالنسبة للصحابة رضوان الله عليهم، وهو معنى مغيب في هذا الزمن، ولا يسعى إليه حر غيور إلا أتهم بالمغفل، وهذا أمر يجعل القلب يتألم من شدة الكمد والألم، جراءَ ما آل إليها حال خاصة المسلمين.
فالأخ الصحيح من يضر نفسه لينفع أخاه كما قال علي بن أبي طالب: “إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك”.
اقرأ أيضا: خطبة عن النفاق والمنافقين
المعنى الثاني: أن اللهَ تعالى جعل الأمر بالمعروف في سياق ذِكر أركان الإسلام، وفيه تلميح إلى كون شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في رتبة أركان الإسلام التي يقوم الدِّين عليها، وتركها ترك للدِّين وانسلاخ منه، بل قد رتب جل وعلا الإيمان على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا أمر حاصل؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهمِّ الأعمال التي تقوِّي إيمان العبد وتزيده يقينًا، بل حصوله من العبد يدل على تحققه بالإيمان؛ لأن حمل هم الشيء يدل على حبه، وحبه يدل على التحقُّق به، ولا يحمل همَّ شرائع الإسلام وإقامة أحكامه منافق.
المعنى الثالث: في أن الله تعالى رتب حصول الاستخلاف على تفعيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فالأمة التي تترك الأخذ على يد الظالم، وتهاب أن تغير المنكَر بالقلب والقول واللسان أمةٌ غير جديرة بالاستخلاف في الأرض، بل حقها أن تكون في ذيل الأمم، يسومونها صنوف الذل والهوان.
فقد بيَّن الله تعالى أنه يمكِّن للذين إذا مُكِّنوا أقاموا الصلاة، وهو حق الله تعالى، وآتَوُا الزكاة، وهو حق العباد، وأمروا بالمعروف ونهَوْا عن المنكر، وهو الميزان الذي يحفظ بقاء ودوام أداء حقوق الله تعالى وحقوق عباده؛ فاختصاصُه تعالى لهذه الثلاث بالذِّكر فيه دلالةٌ واضحة على أن حفظ حقوقه وحقوق عباده لا يكونُ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر.
المعنى الرابع: في أن المعروف والنهي عن المنكر علامة ولاء المؤمنين لبعضهم بعضًا: فإن اتفاق الناس على أمر واحد، لا يهمهم منه إلا حصول مقصد واحد، يجعل قلوبهم مؤتلفة، متماسكة في حصول هذا المقصد وتحقيقه، وكلما زاد هذا السعي الصادق زاد التمسك والتلاحم والأُلْفة، إلى أن تبلغ الغاية من بناء المؤمنين المرصوص الذي عناه الله جل وتقدس: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ). (سورة الصف:4)
وفي الصحيحين عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا). (صحيح مسلم:2585)
المعنى الخامس هو: أن الله تعالى جمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإيمان به في موضع واحد، ولم يزد عليهما شيئًا، وإنما قال: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ). (سورة آل عمران:110)
فدلَّ على الارتباط بين الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل بعد ذلك قال جل وعلا: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) (سورة آل عمران:110)، أي لو أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر لنجوا من اللعن.
ثم ذكر بعد سياق الآيات أسباب كفر أهل الكتاب، وأهم هذه الأسباب تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه تنبيه لأمة الإسلام ألا يتبعوا الخطوات التي وقع فيها أهل الكتاب حتى وقعوا في الكفر؛ فهذه الشريعة هي روح الإيمان وركيزته التي من دونها يذوب الإيمان في قلب العبد كما يذوب الملح في الماء، حتى يبقى شبحًا خاليًا من الحياة ونور الهداية والتوفيق.
وإنما استُحِبَّتِ العزلة عند شيوع المنكَرات وذيوعها؛ لأن النظر إلى المنكر مع عدم القدرة على إنكاره يؤدي إلى فساد القلب، فشرعت العزلة وقتها للحفاظ على الغَيرة الإيمانية المتجلية في تغيير المنكر، ولو خالط المسلم أهل الفجور وصبر على منكراتهم، دل على نقص إيمانه، فإن انتقل إلى استساغة هذه المنكرات ومجالسة أهلها، دلَّ على خراب قلبه، وخُلوِّه من الغيرة على محارم الله.
ويدل عليه ما جاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) (صحيح مسلم:49)، أي: وتلك أقل درجات الإيمان، التي ليس بعدها من الإيمان شيء، وهي الإنكار القلبي.
وعلى هذا، يتبيَّن أن مخالطة أهل المنكر علامة على ضعف إيمان صاحبه، ولو كان في قلبه شيء منه لأنكر أو اعتزل، وقد اشتد البلاء في هذا الزمان، حتى لا يكاد امرؤ يجتنب المنكرات إلا بلزوم بيته أو يهرب إلى شِعب من الشِّعاب بين فِجاج الجبال، ولا يكون ذلك إلا لمن نبذ الدنيا وراء ظهره، ورضي بقليل القوت، وذلك تحقيق ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا؛ فطوبى للغُرَباء). (صحيح مسلم:145)
اقرأ أيضا: أحب الأعمال إلى الله
من أمثلة الصدع بالحق
قول الله جل وتقدس: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)). (سورة يس)
وقوله جل وتقدس: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (٣٨) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (٤٠) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٤٤) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ۖ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (٤٥)). (سورة غافر)
خلاصة القول أن الحق في الصدع بالحق .