خطبة عن حسن التصرف في المال بعنوان (حسن الفال في منهج النبوة المتوازن في المال) لأبي عرفات محمد بن نبيه علي ضيف الله الواعظ بالأزهر الشريف يوضح فيها تعريف المال ويبين أقسامه والضوابط التي يجب أن تراعيها في المال.
مقدمة عن المال
لا شك أن المال عصب الحياة وقد يكون السبب في شقاء الإنسان وتعاسته أو السبب في فوزه وفلاحه وسعادته، لذا لما خلق الله تعالى الإنسان جعل فيه ميلا إلى حب المال وتملكه والاستكثار منه، فقال عنه: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (سورة العاديات:8)، وقال تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا). (سورة الفجر:20)
وقد جعل الله تعالى المال والبنين زينة الحياة الدنيا فقال: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا). (سورة الكهف:46)
وقال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ). (سورة آل عمران:14)
فإن المال لا يطلب لذاته في هذه الدنيا، وإنما يطلب عادة لما يضمنه من مصالح، ولما يحققه من منافع، إنه وسيلة، والوسيلة تحمد أو تعاب، بمقدار ما يترتب عليها من نتائج حسنة أو سيئة.
والمال كالسلاح، والسلاح في يد المجرم يقتل به الآخرين ولكنه في يد الجندي قد يدفع به عن وطنه أو يحرس به الأمن في بلده، فليس السلاح محموداً أو معيباً لذاته، والمال كذلك.
وقد قال الله تعالى في المال وما يسوق لأصحابه في الدنيا والآخرة من خير أو شر، قال: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (٥)’ ‘وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (٦)’ ‘فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (٧)’ ‘وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (٨)’ ‘وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (٩)’ ‘فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ (١٠)’ ‘وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ (١١)). (سورة الليل)
والمال كما يكون زينة الحياة ييسر مباهجها، ويقرب شهواتها، فقد يكون كذلك سياج الدين وضمان بقائه، ومدد تسليحه وحمايته، وقد قال الله في بيان قيمة المال والبنين لإحراز النصر، ورفع الشأن، قال: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَـٰكُم بِأَمْوٰلٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا). (سورة الإسراء:6)
فإن الأمم تنتصر بالمال والبنين، وتنهزم بهما كذلك يوم يكون مالها أداة ترف، أو يوم يكون مصدر استعلاء وطغيان، ويوم يكون أبناؤها طلاب ملذة ولهو ولعب.
اقرأ أيضا: خطبة عن صلاح الأبناء
تعريف المال وبيان أقسامه
المال هو كل ما يقوم وما تحوزه وتنتفع به على الوجه الشرعي.
أما عن أقسام المال فهي:
- مال عام: كالمقابر والمساجد والمدارس والطرق وأملاك الدولة، وهذا ليس لأحد التصرف فيه ببيع أو اهداء أو إجارة أو إبراء وإلا كان معتديا.
- مال خاص: لصاحبه الحق في هبته وتمليكه واهدائه وابراء المدين.
ويمكن أن نذكر هذا المنهج وتلك الضوابط في النقاط التالية:
أولاً: أن تعتقد أن المال مال الله
ولا تظن نفسك المالك الأصيل لهذا المال، بل تشعر أن المالك الأصيل له هو ربك الذي خوّلك وملكك ومنحك وأعطاك!! وأنت لست إلا صاحب يد عارضة عليه، ومن فضل الله عليك أن جعل يدك في هذا المال تعطي نفسك، وتعطي غيرك، والمالك الأول هو رب العالمين.
وهذا المعنى هو الذي أكده القرآن في قوله جل شأنه: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (سورة النور:33)
قال تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ). (سورة الحديد:7)
سئل أعرابي كان في قطيع غنم يملكها: لمن هذا القطيع؟
فأجاب قائلا: هو لله عندي!!
وهذا جواب سديد، فلا تظن نفسك بالتملك قد أصبحت مالك الملك (لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ). (سورة الشورى:49)
فاعتبر نفسك مستخلفاً، وهذه النظرية – نظرية الاستخلاف – تجعلك تدقق فيما تنفقه على نفسك أو على غيرك، أي ليست حريتك مطلقة، فأنت مراقب في تصرفك، مراقب من صاحب المال الذي وظفك فيه، المال مال الله.
ثانيا: الغنى غنى النفس
فمهما ملك الإنسان من مال فهو فقير إلى الله تعالى وقد يذهب ماله في لحظة ويتحول من غني إلى فقير فالسعادة ليست في امتلاك المال وحده بل في الإيمان والطاعة التي يجد لذتها وحلاوتها المؤمن المجاهد لنفسه ولشيطانه فيلزمها تقوى الله ويأخذ من سير المتكبرين عبرة.
وفي قصة قارون عبرة لأولى الأبصار قال تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٨٢)). (سورة القصص)
يقول الشاعر:
تراني مقبلا فتصد عني | وتزعم أنني أبغي رضاك | |
فسوف يغنيني الذي أغناك عني | فلا فقري يدوم ولا غناكا |
اقرأ أيضا: خطورة أكل الحرام وأثره
ثالثا: تعلم أن الله تعالى أعطاك المال ليختبرك
أو يمتحنك وينظر ماذا تفعل فيه، هل تؤدي حق الله في المال هل تتبع المنهج الإسلامي في المال أم لا؟
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (سورة البقرة:254)
ولقد حث الإسلام على تحصيل المال لكن شرط حل التحصيل وحسن إدارة المال، ونهى عن الحرام في التحصيل وسوء إدارة المال بالربا والغش، وحذر من تضييع المال، وبين سوء عاقبة الحرام.
ونهى عن أكل المال بالباطل كالقمار وسائر العقود الفاسدة والسرقة والغصب وأخذ المال باليمين الكاذبة والربا، وحث على إنفاقه فيما يحل كالزكوات وسائر الصدقات والصلات لتحقيق التضامن والتكافل، ونهى عن تبديده بالإسراف والتبذير وبين أن سؤالا سيكون عن الكسب والإنفاق.
روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ؛ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ. فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ. فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ).
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا). (سورة الفرقان:67)
وفي السنة النبوية: (كلوا، واشرَبوا، وتصدَّقوا، والبَسوا في غيرِ إسرافٍ ولا مَخِيلةٍ). (صحيح الجامع:4505)
وقال تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا). (سورة الأعراف:31)
وقال تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا). (سورة الإسراء:26)
وروى مسلم وأصحاب السنن إلا النسائي: (من غش فليس منا).
وروى أصحاب السنن إلا النسائي: عن عبد الله بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعَن اللهُ الرَّاشيَ والمُرتشيَ).
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ). (صحيح البخاري:2387)
اقرأ أيضا: خطبة عن الفساد ومخاطره
رابعا: أن تعلم أن الله تعالى هو الذي تولى قسمة الأرزاق بنفسه فهو أعلم بك منك
قد لا تظهر لك الحكمة من الفقر أو الغنى أو الصحة والمرض إلا بعد مدة طويلة فتحمد الله على ذلك لأنه لو أغناك وأنت مسرف أو مستهتر فقد تضيع مالك ودينك لكنه أغناك بعد ما اتبعت منهجه وتوسطت في الإنفاق بين التبذير والتقتير.
ثم إن الله تعالى من حكمته أن خلق الأغنياء والفقراء وخلق الاختلاف في الأجواء وغيرها لنعرف نعمة الله علينا من رؤية هذا الاختلاف قال تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ). (سورة الشورى:27)
وخلق الله الأغنياء والفقراء لحكمة أيضا وهي تسيير أمور الناس والفقراء يقومون بالأعمال الوضيعة ولكنها شريفة ومن يقم بهذه الأعمال لو خلق الله العباد كلهم أغنياء؟ وقال سبحانه: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا) (سورة الزخرف:32)، فالفقير يخدم الغني والغني يخدم الفقير، ادخل السوق تعرف وانظر إلى الأطباء والمعلمين تعرف أن كل الناس يخدم بعضهم بعضا.
خامساً: عليك أن تعلم أن الإسلام يحترم حق التملك أو الملكية الخاصة
فالإسلام يضمن أو يبيح ويقر حرية التملك، ويعتبر حق التملك حقاً له قداسته ومكانته، ويعتبر أن الجور على هذا الحق أو توهينه في المجتمع ليس من شأن المسلمين، ولا هو من مسالك الأتقياء، لكل إنسان الحق المطلق في أن يكتسب بكد يمينه، وعرق جبينه ما يقيم به معايشه، وما يصون به مروءته، وما يربي به ولده، وما يحفظ به عرضه، لكل إنسان الحق كاملاً في هذا.
ولقد يسر الإسلام للناس أسباب التملك، ودعا الناس لتنمية أموالهم ولكن وضع لهم ضوابط عديدة منها تنمية المال بطرق الكسب الحلال، ثم أداء حق الله في المال، والبعد عن الاحتكار والسرقة والغش والخيانة.. إلخ.
السبب في أن الإسلام احترم الملكية الخاصة، ورفض ما تبنته بعض النظريات القديمة والحديثة من شيوع المال ورفض الملكية الخاصة لأنه يحترم حرية الإنسان، ولما كان حق التملك جزءاً من الحرية الإنسانية فإن الإسلام لم يصادره، والله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان ليكون عبد أحد، وإنما خلقه ليكون عبد ربه وحده جل شأنه، ومن حق الإنسان أن يكون حُراً، ومن تمام حريته أن يمتلك، هذا سبب.
وسبب آخر أن استثمار الأموال وزيادة الإنتاج إنما يكونان بالملكية الخاصة، فإن صاحب المال الذي يعلم أن يده عليه وحقه فيه يسهر على حمايته، ويفتنُّ في إبعاد الآفات عنه، ولكنه يوم يعلم أن هذا المال ليس له، وأن زيادته لن تعود عليه فإنه لا يبالي زاد أم نقص، وإن بالى فإن دوافعه إلى حفظه ستكون أضعف من دوافعه النفسية يوم يكون المال ملكاً له.
وقد ثبت عن طريق التجربة أن المال الخاص أنمى وأقدر على المضي في سلم الترقي والزيادة من أي مال عام!! لذا كان العنصر السادس.
سادساً: أن تعلم أن الإسلام دعا أتباعه للعمل ونهاهم عن المسألة
حث الشرع الإسلامي المطهر المسلم على التعفف والعمل وعدم التسول، أو الاعتماد على الصدقات؛ لأن المسلم ينبغي له أن يحفظ كرامته وهيبته، ولا يريق ماء وجهه للناس.
وفي صحيح البخاري: يحكي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه لما هاجر إلى المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري الخزرجي أحد النقباء في بيعة العقبة – والمؤاخاة: هي أن يتعاقد الرجلان على التناصر والمواساة حتى يصيرا كالأخوين نسبا – فعرض عليه سعد نصف ماله وأن يختار إحدى زوجاته، فيطلقها، وبعد انقضاء عدتها يتزوجها عبد الرحمن، فرفض عبد الرحمن ذلك، وقال: لا حاجة لي في ذلك، ثم سأل سعدا عن موضع السوق التي في المدينة للتجارة، فدله على سوق بني قينقاع – من قبائل اليهود الذين كانوا في المدينة – فصار عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يتردد عليها؛ ليتاجر في السمن والأقط، وهو اللبن المجفف، واستمر على ذلك حتى كسب مالا، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة الطيب الذي تطيب به، فسأله صلى الله عليه وسلم: (هل تَزوَّجتَ؟) فقال: نعم، قال: (ومَن؟) قال: امرأة من الأنصار، وهي بنت أنس بن رافع من بني عبد الأشهل. فسأله: (كَم دَفَعتَ لها مِن الصَّداقِ؟) فأجابه بأنه دفع لها زنة نواة من ذهب، وهي وزن ثلاثة دراهم وثلث، فأمره صلى الله عليه وسلم بعمل وليمة ولو بشاة – والوليمة: هي الطعام الذي يصنع في العرس – والوليمة بالشاة أو أكبر منها لمن قدر عليها، فمن لم يقدر فلا حرج عليه؛ فقد أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسويق – وهو ما يعمل من الحنطة والشعير- والتمر على بعض نسائه.
فالإسلام يطلب من أبنائه أن يكونوا أصحاب همم، فكسب المال عندهم يخضع لتصرف الهمة الكبيرة، قد يكون المال قريباً منك، ولكن لا ينبغي أن تأخذه من أيسر سبيل وتقعد.
وبهذا الخُلق استطاع المهاجرون أن يزاحموا الاقتصاد اليهودي في المدينة المنورة، وأن يجعلوا المال إسلامياً، وهذا شيء له خطورته في كسب النصر للدين نفسه، فإن الاقتصاد يوم تعبث به أيدي من لا ملة لهم ولا شرف فإنهم يسخرونه في ضرب الملة السمحة.
ومن هنا اعتبر أن يد المعطي هي اليد العليا، الله هو الأعلى، ويد المعطي يد عليا، والآخذ يده دنيا، ولأن تكون أسداً تأكل الثعالب من فضلاته أشرف من أن تكون ثعلباً تأكل من فضلات الناس، في الصحيحين من حديث بن عمر رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ). (صحيح البخاري:1474)
ومن ثم كان الإسلام شديد الحث على أن ينطلق المؤمنون في المشارق والمغارب يكسبون رزقهم، ويطلبون فضل الله في مناكب المبعثرة هنا وهناك، أو المخبوءة تحت طباق الثرى، وهذا سر قوله جل شأنه: (وَلَقَدْ مَكَّنَّـٰكُمْ فِي ٱلأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـٰيِشَ) (سورة الأعراف:10)، وقوله جل شأنه: (وَهُوَ ٱلَّذِى سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (سورة النحل:14)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ). (صحيح البخاري:1470)
يتضح من خلال ما مضى أن منهج النبوة في المال منهج موزون، فالمال مال الله واستخلفك فيه وأمرك بأن تحسن إدارته في الكسب والإنفاق وبين لك أن حسن الإدارة سبيل العزة والنصر، ونهاك عن تضييعه وأكله بالباطل وخوفك سلبه والشقاء به.