خطبة عن العبادة في الإسلام بعنوان (الإفادة في تحقيق العبادة) للشيخ محمد نبيه يوضح فيها تعريف العبادة وأهميتها وما هي أنواع العبادة ويبين شروط قبول العبادة.
العبادة في الإسلام
إنَّ للعبادة في الإسلام منزلةً رفيعةً، ومكانةً جليلة، تجعل الحديثَ عنها في غاية الأهمِّيَّة، ولا يُستثنى مِن ذلك زمانٌ أو مكانٌ أو إنسانٌ؛ قال تعالى في سورة الذاريات: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ). (سورة الذاريات)
ﻗﺎﻝ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﺭﺣﻤﻪ اﻟﻠﻪ: خلق اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ الخلق لعبادته.
وقال بن جرير الطبري – رحمه الله -: أي: لعبادتنا والتَّذلُّل لنا.
ولمَّا كانت صُور العبادات وأشكالُها توقيفيَّةً، يُرجع في بيانها إلى الشَّارع الحكيم، احتاج البَشرُ إلى الأنبياء والمرسَلين – عليهم الصَّلاة والسَّلام – الذين يَتلقَّوْن عن الله – سبحانه – أوامرَه ونواهيَه عن طريق الوحي.
قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ). (سورة النحل:36)
ﻗﺎﻝ سهل التستري: العبادة زينة العارفين، وأحسن ما يكون العارف إذا كان في ميادين العبودية والخدمة، يترك ما له لما عليه.
ويقول بن جرير الطبري: ولقد بعثنا أيها الناس في كل أمة سلفت قبلكم رسولا كما بعثنا فيكم بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له، وأفردوا له الطاعة، وأخلصوا له العبادة، (واجتنبوا الطاغوت) يقول: وابعدوا من الشيطان، واحذروا أن يغويكم، ويصدكم عن سبيل الله، فتضلوا.
ومن ثم يجب على العُلماءِ والدُّعاة إلى الله تعالى أن يُبيِّنوا للنَّاس كلَّ ما يتعلَّق بالعبادة، وما يُصلحها مِن شروطٍ وأركان، أو يُفسدها مِن نواقضَ ومُبطلات، فالعلماء هُمْ ورثةُ الأنبياء.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن -: (إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ). (صحيح البخاري:1496)
فالحديث دليلٌ على أهمِّية تعليمِ الفرائض والواجبات الشرعيَّة، مِن العِبادات والأخلاق، بعدَ غَرْس الإيمانِ وتصحيحِه.
اقرأ أيضا: تعريف التوحيد لغة واصطلاحا
ما هو تعريف العبادة لغة واصطلاحا؟
العبادة لغة هي: التَّذلُّل والخُضوع؛ قال الرازي: أصلُ العُبوديةِ الخُضوعُ والذُّلُّ، والتَّعبيد التَّذليل، يقال: طريقٌ مُعبَّد، والتَّعبيد أيضًا الاستعباد، وهو اتِّخاذ الشَّخص عبدًا، والعِبادة الطَّاعة والتَّنسُّك.
العبادة اصطلاحا هي: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبُّه الله ويرضاه، مِن الأقوالِ والأفعالِ الظَّاهرة والباطنة.
وهذا التَّعريف يفيد شُموليةُ معنى العبادة لكلِّ حركاتِ العباد وسَكناتهم، فكلُّ فعلٍ، أو ترْكٍ من المكلفين يُمكن أن يكونَ عبادةً وقُربةً باستحضار النِّيَّة، وقصد الطَّاعة منه، وبموافقةِ الشَّرع في طريقة تطبيقه وأدائه.
ومن تعريف العبادة: أنها امتثالُ أوامرِ الله، واجتنابُ نواهيه.
ويُنبِّه هذا التَّعريف على مسألةٍ خطيرةٍ، ألا وهي: بيانُ مصدر تلقِّي الأوامر والنَّواهي المتعلِّقة بالعِبادة، فليس لأحدٍ غير الله تعالى أن يشرع للعباد شعائر أو شرائع.
قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (سورة الشورى:21)، فلا يَحقُّ لأحدٍ مِن المخلوقين أن يشرع للنَّاس الشَّرائع، أو يضعَ لهم الأديان، أو يحسن أو يقبح لا عالِم، ولا ولي ولا أَمير، ولا غيرهم.
لأن الله تعالى يقول: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ). (سورة الحجرات:7)
ما هي أنواع العبادة في الاسلام؟
العبادة في الإسلام على أنواعٍ كثيرة، وصُورٍ متعدِّدة؛ ومنها:
- الدُّعاء: قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (سورة البقرة:186)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الدُّعاءُ هو العبادةُ). (صحيح الجامع:3407)
- الخوفُ: قال تعالى: (وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين). (سورة آل عمران:175)
- الرَّجاء: قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا). (سورة الإسراء:57)
- الاستعانة: قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). (سورة الفاتحة:5)
- الاستغاثة: قال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ). (سورة الأنفال:9)
- وأركان الإسلام وسيأتي ذكرها.
والعمل عبادة لما رواه الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح عن كعب بن عجرة قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه ما أعجبهم، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنْ كان خرج يسعى على ولدِه صغارًا فهو في سبيلِ اللهِ وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كان خرج يسعى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ). (المتجر الرابح:306)
ما هي درجات العبادة؟
الفرائض والواجبات، والسُّنن والمستحبات، ومنها ما هي على مجموع الأُمَّة، ومنها ما على أَعيانهم، وسببُ اختلاف درجاتِ العِبادة وتفاوتها هو ما يَقتضيه خِطابُ الشَّارع، مِن طلبِ الفِعْل أوِ التَّرك، ومِن الجَزمِ وعَدمه.
فالفرضُ أو الواجبُ في الشَّرع: هو ما يُثاب فاعلُه، ويعاقب تارُكه، ومِن أمثلتِه:
- أركان الإسلام الشهادتان و الصَّلوات الخمس، وصومُ رمضان، وحجُّ بيت الله الحرام لمَن استطاع إليه سبيلًا.
- وما أوجبه الله في كتابه وحده.
ويليه في الرتبة: المندوب أو المُستحب: وهو ما يُثاب فاعلُه، ولا يُعاقب تارُكه، ومن أمثلته: صلاةُ ركعتي الفجر، وصَومُ يومي الإثنين والخميس.
اقرأ أيضا: خطبة عن جبر الخواطر
ما هي أحب العبادات إلى الله؟
أحب العبادات إلى الله هي الفرائضُ والواجباتُ، ثم يَليها السُّنن والمُستحبَّات، دلَّ على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: (مَنْ عادَى لي وَلِيًّا فقد آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشيءٍ أَحَبّ إِليَّ مِمَّا افْتَرضْتُ عَليْه، وما يَزالُ عَبْدي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بِالنَّوَافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإِذا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِها، وَرِجْلَهُ الَّتي يَمْشي بِها، وإِنْ سَأَلني لأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيءٍ أَنا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ). (صحيح البخاري:6502)
بيان معنى الحديث
قوله: (مَنْ عادَى لي وَلِيًّا) المراد بولي الله العالم بالله المواظب على طاعته المخلص في عبادته، وقد استشكل وجود أحد يعاديه؛ لأن المعاداة إنما تقع من الجانبين، ومن شأن الولي الحلم والصفح عمن يجهل عليه.
وأجيب بأن المعاداة لم تنحصر في الخصومة والمعاملة الدنيوية مثلا، بل قد تقع عن بغض ينشأ عن التعصب كالرافضي في بغضه لأبي بكر، والمبتدع في بغضه للسني، فتقع المعاداة من الجانبين، أما من جانب الولي فلله تعالى وفي الله، وأما من جانب الآخر فلما تقدم، وكذا الفاسق المتجاهر ببغضه الولي في الله، وببغضه الآخر لإنكاره عليه وملازمته لنهيه عن شهواته.
وقد تطلق المعاداة ويراد بها الوقوع من أحد الجانبين بالفعل ومن الآخر بالقوة.
قال الكرماني: قوله: (لي) هو في الأصل صفة لقوله: وليا ” لكنه لما تقدم صار حالا.
قال ابن هبيرة في “الإفصاح” قوله: (عادَى لي وَلِيًّا) أي: اتخذه عدوا، ولا أرى المعنى إلا أنه عاداه من أجل ولايته، وهو إن تضمن التحذير من إيذاء قلوب أولياء الله ليس على الإطلاق، بل يستثنى منه ما إذا كانت الحال تقتضي نزاعا بين وليين في مخاصمة أو محاكمة ترجع إلى استخراج حق أو كشف غامض، فإنه جرى بين أبي بكر وعمر مشاجرة وبين العباس وعلي إلى غير ذلك من الوقائع.
قال ابن هبيرة: ويستفاد من هذا الحديث تقديم الإعذار على الإنذار وهو واضح.
قوله: (فقَدْ آذَنْتُهُ) بالمد وفتح المعجمة بعدها نون أي أعلمته، والإيذان الإعلام ومنه أخذ الأذان.
قوله: (بالحَرْبِ): وقد استشكل وقوع المحاربة وهي مفاعلة من الجانبين مع أن المخلوق في أسر الخالق، والجواب أنه من المخاطبة بما يفهم؛ فإن الحرب تنشأ عن العداوة، والعداوة تنشأ عن المخالفة، وغاية الحرب الهلاك، والله لا يغلبه غالب؛ فكأن المعنى: فقد تعرض لإهلاكي إياه، فأطلق الحرب وأراد لازمه أي أعمل به ما يعمله العدو المحارب.
قال الفاكهاني: في هذا تهديد شديد لأن من حاربه الله أهلكه، وهومن المجاز البليغ لأن من كره من أحب الله خالف الله، ومن خالف الله عانده، ومن عانده أهلكه، وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة ثبت في جانب الموالاة، فمن والى أولياء الله أكرمه الله.
قال الطوفي: لما كان ولي الله من تولى الله بالطاعة والتقوى تولاه الله بالحفظ والنصرة، وقد أجرى الله العادة بأن عدو العدو صديق، وصديق العدو عدو، فعدو ولي الله عدو الله، فمن عاداه كان كمن حاربه، ومن حاربه فكأنما حارب الله.
قوله: (وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه): يجوز في (أحَبَّ) الرفع والنصب، ويدخل تحت هذا اللفظ جميع فرائض العين والكفاية، ويستفاد منه أن أحب الأعمال إلى الله هي أداء الفرائض.
قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازم، ويقع بتركها المعاقبة بخلاف النفل في الأمرين، وإن اشترك مع الفرائض في تحصيل الثواب فكانت الفرائض أكمل؛ فلهذا كانت أحب إلى الله تعالى وأشد تقريبا، وأيضا فالفرض كالأصل والأساس، والنفل كالفرع والبناء، وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به امتثال الأمر واحترام الآمر وتعظيمه بالانقياد إليه وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية، فكان التقرب بذلك أعظم العمل، والذي يؤدي الفرائض قد يفعله خوفا من العقوبة، ومؤدي النفل لا يفعله إلا إيثارا للخدمة، فيجازى بالمحبة التي هي غاية مطلوب من يتقرب بخدمته.
قوله: (وما زالَ) في رواية الكشميهني: (وما يَزالُ) بصيغة المضارعة.
قوله: (يَتَقَرَّبُ إلَيَّ) التقرب طلب القرب.
قال أبو القاسم القشيري: قرب العبد من ربه يقع أولا بإيمانه ثم بإحسانه، وقرب الرب من عبده ما يخصه به في الدنيا من عرفانه، وفي الآخرة من رضوانه، وفيما بين ذلك من وجوه لطفه وامتنانه، ولا يتم قرب العبد من الحق إلا ببعده من الخلق، قال: وقرب الرب بالعلم والقدرة عام للناس، وباللطف والنصرة خاص بالخواص، وبالتأنيس خاص بالأولياء.
قال الفاكهاني: معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى.
قال ابن هبيرة: يؤخذ من قوله: (ما تَقَرَّبَ …) إلخ أن النافلة لا تقدم على الفريضة؛ لأن النافلة إنما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفريضة، فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة، ومن أدى الفرض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحققت منه إرادة التقرب.
قد جرت العادة أن التقرب يكون غالبا بغير ما وجب على المتقرب كالهدية والتحفة، بخلاف من يؤدي ما عليه من خراج أو يقضي ما عليه من دين. وأيضا فإن من جملة ما شرعت له النوافل جبر الفرائض، كما صح في الحديث الذي أخرجه مسلم: (انظُروا هل لعبدي من تطوُّعٍ فإن كانَ لَه تطوُّعٌ قالَ أتمُّوا لعبدي فريضتَه من تطوُّعِه). (صحيح أبي داود:864)
فتبين أن المراد من التقرب بالنوافل أن تقع ممن أدى الفرائض لا ممن أخل بها، قال بعض العلماء: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور.
قوله: (كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ) زاد الكشميهني: (به).
قوله: (وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به): وقد استشكل كيف يكون الباري جل وعلا سمع العبد وبصره … إلخ، أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى: كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري، فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح.
قال الفاكهاني: هو فيما يظهر لي أنه على حذف مضاف، والتقدير: كنت حافظ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحل استماعه، وحافظ بصره كذلك … إلخ.
قال الفاكهاني: يحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله، وهو أن يكون معنى سمعه مسموعه لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول، مثل: فلان أملي بمعنى مأمولي، والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكري ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابي، ولا يأنس إلا بمناجاتي ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي، ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي ورجله كذلك، وبمعناه قال ابن هبيرة أيضا.
قال الطوفي: اتفق العلماء ممن يعتد بقوله أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها، ولهذا وقع في رواية: (فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش وبي يمشي).
قال الخطابي: هذه أمثال، والمعنى: توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، وتيسير المحبة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه، ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره، ومن البطش فيما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله.
وعبر بقوله: أحفظه فلا يتصرف إلا في محابي؛ لأنه إذا أحبه كره له أن يتصرف فيما يكرهه منه.
قال الخطابي أيضا: وقد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح في الطلب وذلك أن مساعي الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة.
وقال بعض العلماء: وهو منتزع مما تقدم: لا يتحرك له جارحة إلا في الله ولله، فهي كلها تعمل بالحق للحق.
روى البيهقي في “الزهد” عن أبي عثمان الجيزي قال: معناه: كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الأسماع، وعينه في النظر، ويده في اللمس، ورجله في المشي.
قوله: (وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ) أي ما سأل.
قوله: (ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي) ضبطناه بوجهين الأشهر بالنون بعد الذال المعجمة، والثاني بالموحدة والمعنى أعذته مما يخاف.
ويستفاد منه أن المراد بالنوافل جميع ما يندب من الأقوال والأفعال.
قال الطوفي: هذا الحديث أصل في السلوك إلى الله، والوصول إلى معرفته ومحبته وطريقه، إذ المفترضات الباطنة وهي الإيمان، والظاهرة وهي الإسلام والمركب منهما وهو الإحسان فيهما كما تضمنه حديث جبريل، والإحسان يتضمن مقامات السالكين من الزهد والإخلاص والمراقبة وغيرها.
وفي الحديث: أن من أتى بما وجب عليه وتقرب بالنوافل لم يرد دعاؤه لوجود هذا الوعد الصادق المؤكد بالقسم.
وفيه أن العبد ولو بلغ أعلى الدرجات حتى يكون محبوبا لله لا ينقطع عن الطلب من الله؛ لما فيه من الخضوع له وإظهار العبودية.
قوله: (وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ) وفي حديث عائشة: (ترددي عن موته).
قال الخطابي: التردد في حق الله غير جائز والبداء عليه في الأمور غير سائغ، ولكن له تأويلان:
- أحدهما: أن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه وفاقة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منها ويدفع عنه مكروهها، فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمرا، ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه ولا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله؛ لأن الله قد كتب الفناء على خلقه، واستأثر بالبقاء لنفسه.
- والثاني: أن يكون معناه ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله كترديدي إياهم في نفس المؤمن، كما روى في قصة موسى وما كان من لطمة عين ملك الموت وتردده إليه مرة بعد أخرى، قال: وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله على العبد ولطفه به وشفقته عليه.
قال الكلاباذي: ما حاصله أنه عبر عن صفة الفعل بصفة الذات أي عن الترديد بالتردد، وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف ونصب إلى أن تنتقل محبته في الحياة إلى محبته للموت فيقبض على ذلك.
قال: وقد يحدث الله في قلب عبده من الرغبة فيما عنده والشوق إليه والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت فضلا عن إزالة الكراهة عنه، فأخبر أنه يكره الموت ويسوءه ويكره الله مساءته فيزيل عنه كراهية الموت لما يورده عليه من الأحوال، فيأتيه الموت وهو له مؤثر وإليه مشتاق.
وجوز الكرماني احتمالا آخر وهو أن المراد أنه يقبض روح المؤمن بالتأني والتدريج، بخلاف سائر الأمور فإنها تحصل بمجرد قول “كن” سريعا دفعة.
قوله: (يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ) في حديث عائشة: (إنه يكره الموت وأنا أكره مساءته).
روى البيهقي في “الزهد” عن الجنيد قال: الكراهة هنا لما يلقى المؤمن من الموت وصعوبته وكربه، وليس المعنى أني أكره له الموت لأن الموت يورده إلى رحمة الله ومغفرته.
قال الشيخ أبو الفضل بن عطاء: في هذا الحديث عظم قدر الولي لكونه خرج عن تدبيره إلى تدبير ربه، وعن انتصاره لنفسه إلى انتصار الله له، وعن حوله وقوته بصدق توكله.
قال: ويؤخذ منه أن لا يحكم لإنسان آذى وليا ثم لم يعاجل بمصيبة في نفسه أو ماله أو ولده بأنه سلم من انتقام الله، فقد تكون مصيبته في غير ذلك مما هو أشد عليه كالمصيبة في الدين مثلا.
قال: ويدخل في قوله: (افترضت عليه) الفرائض الظاهرة فعلا كالصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات، وتركا كالزنا والقتل وغيرهما من المحرمات، والباطنة كالعلم بالله والحب له والتوكل عليه والخوف منه وغير ذلك، وهي تنقسم أيضا إلى أفعال وتروك.
فالتقرب إلى الله بالنوافل لا يكون إلا بغاية التواضع لله والتوكل عليه، وهذا مستفاد مما قال: (كُنْتُ سَمْعَهُ).
وموالاة جميع الأولياء لا تتأتى إلا بغاية التواضع، إذ منهم الأشعث الأغبر الذي لا يؤبه له.
وقد ورد في الحث على التواضع عدة أحاديث صحيحة:
- منها ما رواه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار رفعه: (إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ). (صحيح مسلم:2865)
- ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رفعه: (وما تواضعَ أحدٌ للَّهِ إلَّا رفعَهُ اللَّهُ). (صحيح مسلم:2588)
- ومنها ما رواه بن ماجه وابن حبان عن أبي سعيد رفعه: (من تواضع لله رفعه الله حتى يجعله في أعلى عليين).
اقرأ أيضا: مقدمة عن التوحيد
ما هي شروط قبول العبادة؟
لا تقبل العبادة إلا بشرطين هما في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا). (سورة الكهف:110)
أولاً: صلاح العمل
صلاح العمل ويكون بموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإتباع طريقه، والمراد بها الاقتداءُ برسول الله صلى الله عليه وسلم في أداء العبادة، وعدمُ مخالفة سُنَّته وطريقتِه، وقد دلَّ على وجوبِ الإتباع نصوصٌ كثيرةٌ مِنَ الكتاب والسُّنَّة؛ منها:
- قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا). (سورة الأحزاب:21)
- وقوله سبحانه: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ). (سورة النور:54)
- وقوله سبحانه: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). (سورة النور:63)
أدلة الإتباع مِنَ السُّنَّة؛ منها:
- روى البخاري في صحيحه من قوله صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة: (وصَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي). (صحيح البخاري:6008)
- وروى مسلم في صحيحه عن جابر، يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ). (صحيح مسلم:1297)
- وكلُّ ما ورد في النهيِ عن الإحداث في الدِّين دليلٌ على شَرْط المتابعة، كما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن أَحْدَثَ في أَمرِنا هذا ما لَيسَ منه، فهو رَدٌّ). (صحيح مسلم:1718)
ثانياً: عدم الشرك بالله
يعني الإخلاص في العبادة وهو: أن يَقصدَ بعبادته وجهَ الله وثوابَه، ولا يُشرك فيه غيرَه.
والدَّليل على هذا الشَّرْط مِن القرآن:
- قوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ). (سورة البينة:5)
- وقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا). (سورة الكهف:110)
- وقوله – عز وجل -: (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَه دِينِي). (سورة الزمر:14)
ويدلُّ عليه منَ السُّنَّة:
- ما رواه البخاري في صحيحه من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نَوَى). (صحيح البخاري:1)
- وما رواه مسلم عن أبي هريرة من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ: أنْ تَعْبُدُوهُ، ولا تُشْرِكُوا به شيئًا، وأَنْ تَعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا). (صحيح مسلم:1715)
ما أهمية العبادة؟
للعبادةِ في الإسلام مكانةٌ رفيعةٌ، ومنزلةٌ عاليةٌ، تتجلَّى هذه الأهمية وتظهر هذه المكانة في الأمور التَّالية:
- العبادةُ هي الغايةُ مِن خَلْق الجِنِّ والإِنس: قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)). (سورة الذاريات)
- إفرادُ العبادةِ لله تحرر منَ الخُضوع والذُّلِّ لكلِّ معبودٍ باطل: قال الله تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ). (سورة الحجر:42)
- وقال أيضًا: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ۖ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). (سورة الأعراف:194)
- النَّصْر والتَّمكين لعباد الله الصَّالحين: قال تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ). (سورة الحج:41)
- الإضافة التَّشريفيَّة إلى الله تعالى: قال تعالى منوِّهًا بصفات عبادِه الصالحين: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا). (سورة الفرقان:63)
- وقال تعالى: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ ۚ فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)). (سورة الزمر)
- دخول الجَنَّة، ونيل رضوان الله الأكبر: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)). (سورة الكهف)
ما أثر العبادة على الفرد والمجتمع؟
إنَّ أداءَ العبادات التي شَرَعها اللهُ على وجهها، وطاعة الله فيما أَمر به مِنَ الشَّرائع والشَّعائر، له آثارٌ حسنةٌ وطيِّبةٌ على سلوك الأفراد والمجتمعات؛ لأنَّ سعادة الأُمم الحقيقيَّة في صِحة عقائدها، وطاعة ربِّها – سبحانه وتعالى.
ما أثر المحافظة على الصلاة في حياتنا؟
الصَّلاة هي عِمادُ الدِّين: (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا). (سورة النساء:103)
والصلاة تغسل الذنوب؛ كما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أَرَأَيْتُمْ لو أنَّ نَهْرًا ببَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ منه كُلَّ يَومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هلْ يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ؟)، قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: (فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَواتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطايا). (صحيح مسلم:667)
الصلاة ليست مجرد عدد من الركعات يؤديها المسلم وينتهي الأمر عند خروجه من المسجد، لا فالصلاة هي من أقوى العبادات التي تقوى صلة العبد بربه، وتعود المسلم على النظام وضبط الوقت، وتبعده عن ارتكاب المعاصي، وتطهره من سوء القول وسوء العمل.
قال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ). (سورة العنكبوت:45)
والصلاة بها يشعر المسلم بأنه جزء من المجتمع الذي يعيش فيه، فمن خلال صلاة الجماعة تتوحد الأمة وينتشر التراحم والتعاطف والمساواة بين أفراد المجتمع المسلم لأن ربهم واحد وقبلتهم واحدة ودستورهم هو القرآن وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
فالغرض الحقيقي من الصلاة يتحقق على خير وجه عندما تكون الصلاة جماعة، فروح كل صلاة روح اجتماعية، حتى الراهب يعتزل جماعة الناس لعله يوفق في محرابه إلى محبة الله والجماعة، والطائفة المتعبدة هم أناس اجتمعوا معا يحييهم أمل واحد فيجمعون أمرهم على هدف مقرر، ويفتحون أعماق أنفسهم لتلبية باعث واحد.
وإنها لحقيقة سيكولوجية أن الاجتماع ينمي قوى الإدراك عند الرجل العادي ويعمق شعوره، ويحرك إرادته إلى درجة لا يعرفها في عزلته ووحدته، وعلى هذا فإن صلاة الجماعة في الإسلام – إلى جانب ما لها من قيمة فكرية – تشير إلى الأمل في تحقيق الوحدة الضرورية للبشر كحقيقة من حقائق الحياة، وذلك بالقضاء على جميع الفوارق التي تميز بين إنسان وأخر.
ما أثر الصيام على الفرد والمجتمع؟
كذلك الصَّوم يُعين على التَّقوى، ويُربِّي عليها، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). (سورة البقرة:183)
وكذلك شرع الإسلام الصوم: فلم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكودة.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ). (صحيح البخاري:1903)
ويقول أيضا فيما رواه البخاري في صحيحه: (والصِّيامُ جُنَّةٌ، فإِذَا كان يومُ صِيامِ أَحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ، ولا يَصْخَبْ، فإنْ سابَهُ أحدٌ أوْ قاتَلهُ فَلْيَقُلْ: إِنِي صائِمٌ). (صحيح البخاري:1904)
من هنا فإن الصيام دعوة إلى ضبط النفس والتحلي بالأخلاق الكريمة، والصبر على تحمل الآخرين، وتزكية للنفس وتطهير للقلب، ومراقبة للرب جل جلاله.
وصوم رمضان عبادة تلتقي في هدفها مع أهداف القرآن في تربية العقول والأرواح، وتنظيم الحياة، وهو يوحد بين المسلمين في أوقات الفراغ والعمل، وأوقات الطعام والشراب، ويفرغ عليهم جميعا صبغة الإنابة والرجوع إلى الله.
ويرطب ألسنتهم بالتسبيح والتقديس ويعفيها عن الإيذاء والتجريح، ويسد عليهم منافذ الشر والتفكير فيه بمحبة الخير والبر لعباد الله، ويغرس في نفوسهم خلق الصبر الذي هو عدة الحياة، وهكذا يريد الله أن يكون الإنسان.
ما أثر الزكاة؟
الزكاة – وهي فريضةٌ اجتماعيَّةٌ – جاء بها الإسلام لتطهيرِ نفوس الأغنياءِ مِن الشُّحِّ والبخلِ، وتطهيرِ نفوس الفقراء من الغِلِّ والحسدِ، كما قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (سورة التوبة:103)
كما شُرعتِ الزَّكاةُ أيضًا لإقامة شَعائرِ الإسلام، كالجهادِ، وبناء المساجد، والمدارس، وغيرها؛ قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (سورة التوبة:60)
والزكاة تعد علاجا عمليا بعيد الغاية لضعف النفس وتحصينها من أدواء الشح والأثرة وعبادة المال.
والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب بل هي أولا غرس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعاون والألفة بين شتى الطبقات، فتنظيف النفس من أدران النفس، والتسامي بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى.
اقرأ أيضا: خطبة عن الزكاة وفوائدها
ما أثر الحج؟
أمَّا فريضةُ الحجِّ، فهي مدرسةٌ ربَّانيَّةٌ متكاملةٌ، تُقوِّي صلةَ العبد بربِّه بما تُزكِّي من نفسِه، وتُحسِّن من أخلاقه، وتُعوِّدُه على البذل والتَّضحية.
قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ). (سورة البقرة:197)
وقد يحسب البعض أن السفر إلى البقعة المقدسة للمستطيع لأداء فريضة الحج والقيام بأداء المناسك إنما هذه عبادات غيبية أمرنا الله بها.
إن الحج لم يشرع لمجرد ذكر الله، ولا لمجرد طواف المسلم منفردا ببدنه حول بيت الله الحرام، ولا مجرد وجوده واكتحال عينه بالمشاهد المقدسة، وإنما شرع لذلك وأعم منه.
شرع ليكون السبيل لجمع المتفرق، ولم المشتت، وتقابل الآراء بالآراء، ثم ليعود المجتمعون وقد حملوا مسؤولياتهم المشتركة، وأخذ كل منهم نصيبه منها، يعمل مع أهله ومواطنيه على تحقيقها والقيام بواجبها في حفظ إنسانيتهم، ورسم طرق سعادتهم وليتكون من جميعهم أمة واحدة، تلك هي المثالية الفاضلة التي أعلى الله شانها ورفع ذكرها.
وللحج دوره البارز في تحقيق التكافل الاجتماعي، وإطعام الجائعين، والعطف على البؤساء المحرومين من خلال ذبائح الهدى يقول سبحانه: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ). (سورة الحج:28)
والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الآخَرُ يقي المجتمعَ من العقائدِ الفاسدة، والطِّباع المُعوجَّة، والسلوكيات المُنحرفة: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ). (سورة المائدة:63)
وهكذا نَرَى الآثارَ الإِيجابيَّة للعبادات أيًّا كان نوعُها تُشكِّل عاملًا ضروريًّا في بناء الفرد المسلم بناءً كاملًا، يشمل الجوانبَ العَقديَّة والعِباديَّة والسلوكيَّة، وفي تكوين المجتمع المثالي الذي عَجزتْ كلُّ الفلسفات والقوانين والآداب على تصويره، وتحديدِ ملامحه الحضاريَّة.
فالعبادات في الإسلام لم تقتصر على الشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وزكاة وصوم وحج، بل تشمل كل حركة وكل عمل ترتقي به الحياة ويسعد به الناس.
فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنية والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث أداء الأمانة، وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ومجاهدة الكفار والمنافقين والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والدعاء والذكر، وحب الله تعالى ورسوله، وخشيته لله تعالى والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر والحكمة والشكر لنعمه، والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك كله من العبادة.
فإن لم يستفد المرء منها بما يزكي قلبه وينقى لبه ويهذب بالله وبالناس صلته فقد هوى.
قال تعالى: (إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ (74) وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ (75)). (سورة طه)
فالعبادةَ كما سبق بيانه هي الغايةُ من الوجود الإنسانيِّ، ولا تكونُ للحياةِ أية أهمِّيَّة ما لم تكن جميعُ مظاهرِها مُعبِّرةً عن معاني التَّذلُّل والخُضوع لله سبحانه وتعالى.
ماشاء الله موقع جميل وجهد مشكور من فضيله الشيخ محمد نببه جزاه الله خيرا وتقبل منا ومنه صالح الاعمال