تخطى إلى المحتوى

تفسير سورة التغابن

مشاركة:

تفسير سورة التغابن للشيخ محمد نبيه يشرح فيها معنى التغابن وما هو يوم التغابن ولماذا سميت سورة التغابن بهذا الاسم؟ ويبين معاني الكلمات والآيات.

تفسير سورة التغابن
تفسير سورة التغابن

ما معنى التغابن

معنى التغابن من الغبْن – بتسكين الباء – الغبْن في اللغة: يعني الغلب والخدع والنقص، ويدخل على البيوع والغبْن في البيوع هو بيع السلعة بأكثر مما يعرف.

وأيضاً معنى التغابن من الغبَن – بتحريك الباء – والغبَن يدخل في الآراء والاعتقادات.

اختلف العلماء في موطن نزولها فريق قال نزلت في مكة المكرمة وآخرون قالوا نزلت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير ثلاث آيات نزلت في مكة وهي آخر آيات فيها.

وهذه السورة المباركة نزلت بعد سورة التحريم وقبل سورة الصف وعدد آياتها ثمانية عشر آية، وهي من السور التي أطلق عليها المسبحات التي تبتدأ بتسبيح الله تبارك وتعالى.

يوم التغابن

من أسماء يوم القيامة “يوم التغابن” لأن أهل الجنة يغبنون أهل النار وغبن أهل الجنة لأهل النار يتبدى في الآتي:

أن الله تبارك وتعالى لما خلق الجنة وهيأ لها أهلاً وخلق النار كذلك وهيأ لها أهلاً جعل لكل مخلوق في الجنة منزلاً وفي النار منزلاً، من آمن بالله ووافاه مؤمناً أسكنه الله منزل الجنة وعافاه من مسكن النار، ومن وافاه كافراً أسكنه الله مسكن النار وحرمه من مسكن الجنة.

إذا ما دخل أهل الجنة الجنة أنزلهم الله تبارك وتعالى منازلهم وأورثهم منازل الكفار فيها، وإذا ما دخل أهل النار النار أنزلهم الله تبارك وتعالى ما توعدهم به ثم أعطاهم بيوت المسلمين الذين دخلوا الجنة في النار، هذا تعليل تسمية السورة بالتغابن.

وفي سورة المؤمنون يبين ربنا تبارك وتعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)﴾.

تفسير سورة التغابن

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾

تتضمن بداية السورة تسبيح ما في السماوات والأرض من مخلوقات لله تبارك وتعالى، الملائكة وما في الجنة من نعيم والجحيم كل شيء يسبح لله والله تعالى قال في سورة النور: ﴿إِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾.

﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

له الملك وحده وليس لأحد في الملك شيئاً وأمره في ملكه في الدنيا والآخرة نافذ، وهو وحده الذي يحمد على كل شيء يحمد على النفع ويحمد على الضر، وقدرته تبارك وتعالى لا تحدها حدود ولا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء.

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ﴾

علم الله تبارك وتعالى الجنة والنار قبل خلقهما، وعلم أن للجنة أهلاً وأن للنار أهلاً ففي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء).

والنبي صلى الله عليه وسلم لما أُسري به وعُرج به وهو في السماوات العُلى مر على الأنبياء عليهم السلام ومر أول ما مر على آدم عليه السلام فوجد عن يمينه أسودة – الجمع الكثير يقال له أسودة ومنه سواد عظيم من الناس – وعن يساره أسودة ورآه كلما نظر عن يمينه سُر وكلما نظر عن يساره اغتم.

فقال يا جبريل: ما هذا؟ قال جبريل: يا محمد أما الذين عن يمينه فهم أهل الجنة من ذريته، وأما الذين عن شماله فهم أهل النار من ذريته.

فاعلم باركك الله أن في القيامة فريقان لا ثالث لهما فريق في الجنة نسأل الله أن يجعلنا منهم وفريق في السعير نعوذ بالله أن نكون من أصحاب السعير.

﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾

هذا التذييل في الآية فيه وعيد شديد وتهديد كبير أن الله تعالى بصير بكل ما نعمل وفي هذا دعوة إلى أصحاب المعاصي وأصحاب الخطايا والآثام والذنوب أن يستخفوا من أحمالهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

لو أننا على طريق ونحن في الدنيا ويحمل بعضنا شيئاً مما هو مخالف وهناك في الطريق كمين تفتيش لو دخلت عليه ومعي المخالفة فعاقبتي محتومة لذلك تجدني أتحلل مما معي حتى أسلم عند التفتيش.

ما زلنا إلى هذه اللحظة وكلنا أصحاب ذنوب لكن منا من يحرص على الذنب حتى عند دخوله المسجد ولا يخاف العاقبة ولا يعبأ بنظر الله تعالى إليه.

هناك أناس مبتلون بالدخان ويدخل المسجد وفي جيبه علبة الدخان، وعلبة الدخان هذه معصية أم لا؟ لكن لو على الطريق وهناك تفتيش عن الدخان هل سيبقيه في جيبه؟ بالطبع لا. لماذا؟ لأنه يعبأ بنظر الناس إليه ولا يعبأ بنظر الخالق إليه.

لذلك في الآية دعوة إلى التحلل من الخطايا والذنوب وإلى التحلل مما اعتادته النفس من غشم ومن اقتراف الآثام، دعوة إلى أن يتزود كل إنسان بما يحبه الله تبارك وتعالى.

﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾

لم يخلق الله السماوات والأرض عبثاً إنما خلقهما لحكمة يعلمها هو جل في علاه، ولم يصورنا كالحمير ولم يجعلنا كالنمور ولا كالطيور إنما خلقنا في أحسن خلقة وصورنا في أبهى صورة ومع هذا ما زلنا يعير بعضنا البعض بسوء خلقته فيعيب صنعة الباري سبحانه وتعالى.

في البيوت بين الرجال والنساء وبين الآباء والأبناء، وفي المدارس بين الأساتذة والمعلمين والمتعلمين ما زلنا للآن نضرب على الوجه مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرب على الوجه فقال: (لا تضرب الوجه ولا تقبح).

الصغير إذا أخطأ تضربه أمه على وجهه ويضربه أبوه على وجهه وهذه مخالفة، الزوجة عندما تخطئ يضربها زوجها على وجهها وهذه مخالفة، التلميذ في الفصل عندما يخطئ يضربه الأستاذ على وجه وهذه مخالفة.

هذا الوجه صورة صورها الرحمن تبارك وتعالى لذلك نهى النبي عليه الصلاة وأزكى السلام أن يضرب الإنسان على وجهه.

﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾

 المصير يعني المرجع والمآب وما دمنا سنرجع فلماذا نصر على ما نحن فيه من سوء وعلى ما نحن عليه من خطأ؟ فعلينا إخوتي الكرام أن نتحلل حتى إذا ما رجعنا إلى الله تعالى رجعنا ومعنا ما يحبه الله منا وفينا.

﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾

علِم الله تبارك وتعالى صفته فهو يعلم ما في السماوات ويعلم ما في الأراضين ويعلم ما يسره خلقه بل وما يعلنون ويعلم ما تكنه صدورهم وما تخون به أعينهم.

لذلك من وقف على أن الله تعالى يعلم كل شئ ولا يخفى عنه شئ جدير به أن يكون صفحة واحدة، وصفحة المؤمن واحدة ليس المؤمن بصفحتين لأن الصفحتين من شيمة المنافق يلقاك بوجه ويلقى غيرك بوجه آخر.

لذلك المؤمن صفحة واحدة ما في قلبه على جوارحه بادي يعني ظاهر كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).

فما في القلب عند المؤمن بادي على أعضائه أما المنافق أعضائه صورة وقلبه صورة أعضائه صفحة وقلبه صفحة يريك من نفسه الطاعة ويري الله من قلبه الكفر.

﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾

ما في بطون الصخر يعلمه الله وما في قاع المحيطات يعلمه الله ولا يخفى عن علم الله شئ في الأرض ولا في السماء.

﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا ۚ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ۚ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا ۚ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ۚ وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)﴾

ثم بعد ذلك في الآيات تذكير لأمة محمد صلوات الله وسلامه عليه بما انتهت به أحوال الأمم السابقة.

الأمم السابقة منهم أمم عذبهم الله تبارك وتعالى أنزل على بعضهم الصاعقة وأخذ آخرين بالصيحة وأهلك آخرين بالريح وأغرق آخرين وخسف بآخرين.

وهذه صور ذكرها الله تبارك وتعالى في كتابه وقصصاً قصها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم بين الله تبارك وتعالى وقال: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ﴾.

لذلك في هذه السورة ذَّكر الله تعالى أمة رسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه بهلاك من أهلك من الأمم السابقة ثم أنبأهم بأسباب هلاكهم.

ذَّكرنا الله بأحوال من سبق وبتكذيبهم لأنبيائهم واستكبارهم على دعوتهم وعدم تدينهم بدين الله تبارك وتعالى فكان العاقبة أن ذاقوا وبال أمرهم ليس في الدنيا عذاب فقط إنما ينتظرهم عذاب أليم يوم لقاء الله رب العالمين.

ومن أسباب عذابهم وهلاكهم أنهم كذبوا بالبعث ولقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم أحد من عاصره من أهل الشرك – قال بعضهم: الوليد بن المغيرة وقال آخرون: العاصي بن وائل السهمي – أتاه بعظم في يده ثم فركه أمامه وقال: يا محمد أتزعم أن ربك يحيي هذا العظم بعدما رم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويميتك ثم يحييك ثم يدخلك النار).

فنزل في هذا قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)﴾.

﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾

ما ينزل من السماء وما يعرج إليها وما يحدث في الأرض وما في باطنها كل هذا بقدر الله تبارك وتعالى، وما يصيب الإنسان في نفسه في ولده في أهله في ماله في أحواله إنما هي أقدار تجري وما على المخلوق إلا الصبر والرضا.

أي مصيبة في الكون إنما هي بإذن الله، لا يقوى إنسان أبداً أن يغير ما في ملك الله، إن صبر فهو مأجور وإن رضي فالله تعالى يعوضه.

أما إن كفر ولم يصبر فهو مأزور ولا يستطيع أن يغير من مقدور الله شيئاً، وإن لم يرضى فأمر الله نافذ ولا يملك أحد رد أمر الله أبداً.

من المسائل المعاصرة حوادث الزمان، أحد الصالحين نحسبه من الصالحين والله حسيبه يقص قصة حدثت له:

وهو في الجامعة ركب السيارة وركب في الكرسي الأمامي في السيارة فأتى رجل فيه منظر الفتوة ثم حمله من الكرسي وألقى به في الأرض وركب مكانه ولم يطلب إذناً ولم يعتذر ولا شئ، قال: فخافه الناس، ولم يتكلم أحد معه.

قال: فقمت ونظفت ثيابي مما حدث وركبت في سيارة أخرى وسِرت بعده بقليل فوجدت السيارة التي أنزلني منها تحولت إلى قطعة فحم! أصابها حادث واشتعلت النار فيها كلها ومات من فيها جميعاً. قال: فعلمت أن الله استنقذني بهذا الرجل.

فانظر لتدبير الله له، هو غضب لما أخذه من السيارة وألقاه على الأرض، لأن في علم الله أن هذه السيارة ستهلك وسيموت من فيها وهذا الجالس ليس مكتوباً فيمن يموتون اليوم.

فينبغي لنا عند حوادث الزمان إن كان الحدث مؤلماً علينا أن نحمد الله تبارك وتعالى ثم نسترجع ونقول: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون.

للأسف هذه الكلمة تقال فقط عند الموت ولكن الأصل أن تقال في أي حدث أو في أي مصاب، حتى لو سقط أحدهم من فوق الحمار أو أن قلمه ضاع فليقول: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون.

هكذا في كل حوادث الزمان ما صغر وما كبر ما حقُر وما عظُم في موت أو في ما دون الموت الأصل عند المسلم أنه رجاع يقول في أي مصاب: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم آجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها.

﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾

في صحيح الإمام البخاري من قول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في هذه الآية قال: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ﴾ أي يؤمن بأن المصيبة قدر الله ولا يكون في ملك الله إلا ما يريده الله فمن يؤمن بهذا يملأ الله قلبه رضا وإذا ملئ القلب بالرضا اهتدى صاحبه.

واعلم باركك الله أن الله تعالى بين في كتابه أن المصائب قدر، والإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان كما في حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه الذي عند مسلم في الصحيح.

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد.

حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ).

قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان؟.

قال صلى الله عليه وسلم: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره).

قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟.

قال صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك).

قال: فأخبرني عن الساعة؟.

قال صلى الله عليه وسلم: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل).

قال: فأخبرني عن أمارتها؟.

قال صلى الله عليه وسلم: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان).

ثم انطلق، فلبثت مليا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي: (يا عمر، أتدري من السائل؟. قلت: الله ورسوله أعلم. قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).

الشاهد في الرواية سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال صلى الله عليه وسلم: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره).

فالإيمان بالقدر جزء الإيمان وركن من أركانه ولا يحدث في كون الله شئ إلا بقدر الله قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)﴾.

من يؤمن بقدر الله ويسترجع ويحتسب الله تعالى يملأ قلبه رضا، كم من أمهات فقدن من أولادهن وكم من امرأة لما مات ولدها وعزيزها استرجعت وحمدت الله تبارك وتعالى فما كان إلا العِوض.

زوجة أبي طلحة أم سُليم مات صغيرها، زوجها خرج في أول النهار وصغيرها يلعب بلعبته لما رجع في آخر النهار سألها عن الولد؟ قالت: هو أحسن من ما كان.

ثم قدمت له طعامه وشرابه وبعد أن أكل وشرب تهيأت له فأصاب منها ولما أصاب منها قالت له: يا أبا طلحة ترى لو أن أحداً أعارك شيئاً وأتاك يطلب ما استعرته منه أكنت تمنعه؟ قال: حاشا وكلا. قالت: فإن الله تعالى أعارك ولدك واسترد وديعته.

فما كان من أبي طلحة إلا أن قال: “الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم آجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها”، فقدر الله له من ليلته ولداً لما أصاب امرأته.

فالذي يعوض هو الله تبارك وتعالى، لكن علينا أن نصبر ونرضى، لكن نشكوا الله إلى خلقه؟ نشكوا الرحيم إلى الذي لا يرحم؟ هذا سفه وحماقة.

﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾

الله يعلم أن هذا لو أبقاه حياً لترتب على إبقاءه أشياء ويعلم أن موت غيره يترتب عليه أشياء، يعلم حال كل امرئ ما ينفعه وما لا ينفعه.

ونظرنا قصير ورويتنا للأحداث رؤية قصيرة رؤية ناقصة فالله تعالى لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء وما على أحدنا إذا أصابه مكروه إلا أن يصبر ويرضى صنع الله فيه وهذا من إيمان الربوبية أن ترتضي الله لك مدبراً.

﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾

الله أمرنا بالصبر ووعد الصابرين بأجر لا عدد له ولا حساب فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، هذا وعد الله لمن صبر، الأجر العظيم.

والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك أمر بالصبر ووعدنا عليه الجنة من أطاع الله وصبر وأطاع النبي وصبر واصطبر كان له من الله وعده وفاه الله الأجر وزيادة وكان له من رسول الله ما تضمنه من مجاورته في جنة الله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

أما من لم يطع وأعرض وتولى فله من الله الوعيد، والوعيد عذاب نعوذ بالله من عذاب الله، انظر في الآية وافتح أذنك جيداً.

﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾

تهديد ووعيد شديد من الله سبحانه وتعالى لمن تولى وأعرض عن طاعة الله ورسوله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ وأشهدكم على البلاغ.

﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾

بعد حياة في الدنيا ثم حياة في القبر هناك حياة لا فناء لها ولا نهاية ﴿إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، والحياة الآخرة فيها حكم واحد ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾.

المصير في الآخرة إلى إله واحد، في الدنيا المعبودات كثيرة هذا يعبد ماله والآخر يعبد منصبه والآخر يعبد هواه والقليل القليل من يعبد الله، لكن في القيامة ليس هناك إلا الله تبارك وتعالى المرجع له وحده.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾

في سنن الإمام الترمذي رحمه الله تعالى من حديث عبدالله بن العباس رضي الله تعالى عنهما أن أناساً في مكة قد أسلموا وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة كان يطلب ممن يؤمن في مكة أن يلحق به في دار هجرته ولا يبقى بين ظهراني المشركين.

فكان أناس في مكة أسلموا أرادوا أن يهاجروا فمنعتهم النساء ومنعهم الأولاد قالوا لهم لا تهاجروا إن هاجرتم سنضيع وخوفوهم من الهجرة.

ثم بقوا في مكة ثم من بعدها هاجروا بنسائهم وأولادهم فرأوا من سبقوهم إلى الهجرة قد استفادوا في الدين أكثر من استفادتهم هم وعرفوا ما لم يعرفوه فتندموا.

إذا رأيت نفسك على طاعة وتعلقت بك امرأتك أو ولدك ليثنوك عن الطاعة فاعلم أنهم أعدائك. لماذا؟ لأنهم لا يريدون لك الراحة في الدنيا ولا في الآخرة.

لو أن المرأة أقصتك عن طريق الله فهي أول عدو لك ولو أن الولد أبعدك عن طريق الله فهو كذلك عدو لك.

﴿وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾

فلما تندموا توعدوا نسائهم وأولادهم بالعقاب ومن ثم لما توعدوهم بالعقاب دعاهم الله تعالى للعفو وللصفح وللمغفرة ووعدهم على العمل جزاء وثوابا من يعفو يعفو الله عنه ومن يصفح يصفح الله عنه ومن يغفر للناس يغفر الله له.

والفارق بيننا وبين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يحبون أن يغفر الله لهم، أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه تناوله بعض الناس بكلام شديد لا يحتمله أحد سبوا ابنته السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

وكان ممن تكلموا مسطح بن أثاثة ابن خالة أبو بكر وكان مسطح وأمه في كفالة أبو بكر فلما علم أبو بكر بما فعل مسطح غضب وحلف يميناً بالله أن يخرجه من كفالته.

فلما نزلت البراءة من السماء في سورة النور نزل معها ترغيب في العفو: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.

فقال أبو بكر: بلى يا رب أحب أن يغفر لي، وعاد وأعاد مسطح إلى كفالته مرة أخرى.

فالطامع في عفو الله يعفوا عن خلق الله والطامع في صفح الله يصفح عن خلق الله والطامع في مغفرة الله يغفر لخلق الله.

﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾

في المدينة المنورة لما نقضت قريظة عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريظة طائفة من اليهود أهل غدر، فلما نقضوا عهدهم وتحزبوا مع الأحزاب وساعدوهم.

بعد غزوة الأحزاب أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخرج من الأحزاب إلى قريظة. ولما حاصر قريظة، قالوا: يا محمد نرتضي أن تحكم فينا. قال صلى الله عليه وسلم لهم: نحكم فيكم.

وكان لهم أليف في الصحابة رضي الله عنهم وكان خالص الإيمان وكان سيداً مطاعاً وهو سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه.

سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته وأنزل الله تعالى سبعين ألف ملك يمشون في جنازته، وكان عمر سعد بن معاذ يوم أن سلم ثلاثين عاماً ويوم أن مات كان عمره ستة وثلاثون عاماً.

فقالوا: نرتضي حكم سعد، فحكم سعد رضي الله عنه فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وأما النساء والذرية يؤخذوا سبايا.

وكان في المدينة أناس سمعوا الحكم ولم تسمع به يهود وكان من هؤلاء صحابي اسمه أبو لبابة له أرض مزروعة في قريظة، فذهب إلى أرضه فقابلته قريظة بساداتها يسألونه عن الأخبار في المدينة وأخبروه أنهم ارتضوا بحكم سعد.

فأشار أبو لبابة إلى حلقه ولم يتكلم ففهموا أنه أنزلهم على الذبح، فعلم أنه خان الله ورسوله وهذه خيانة عظمى.

﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ﴾

فما ارتضى أن يرجع إلى بيته إنما رجع من أرضه إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد وحرم على الناس أن يفكوه حتى ينزل فيه قرآن يعلن قبول توبته.

وظل على حاله حتى نزلت الآية السابقة، فخرج أبو لبابة من ماله كله تبرع بكل ما يملك صدقة للمسلمين فرحاً في أن الله تعالى قبل توبته.

لذلك المال والولد فتنة وامتحان وكل منا ممتحن في نفسه وماله وأهله، والممتحن بين ناجح وراسب فالح وطالح لذلك كل من الناجحين الفائزين والزم طاعة رب العالمين سبحانه وتعالى.

﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾

نعوذ بالله من الشُح لأن الشُح أهلك من كان قبلنا واليوم هناك أناس الشُح غلب عليهم.

﴿إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)﴾.

الله تعالى غني عن عباده لا تنفعه طاعتنا ولا تضره معصيتنا ولكنه يخبئ لعباده يربي لهم صدقاتهم حتى إذا وافوه يوم القيامة أعظم أجرهم ووجد الإنسان ما أقرضه وجده مليئاً كبيراً عند ذلك الله تعالى يظله في ظل صدقته يوم القيامة.

فشمس القيامة تختلف عن شمس الدنيا فالمسافة بيننا وبين الشمس في الدنيا ملايين الأميال، أما في الآخرة سيكون انصهار إذ أن المسافة بين الشمس والرؤوس قد تصل إلى ميل واحد فقط ولكن أصحاب الصدقات وأصحاب فعل الخير في ظل صدقاتهم يوم القيامة.

لذلك لا ترجوا من وراء القرض إلا وجه الله فإن فعلت كافئك الله يوم القيامة ووقاك حر يوم القيامة فأنزلك تحت ظل صدقتك وزادك، وأوردك حوض نبيك المصطفى وزادك بشرب من كف الحبيب النبي ويا حظوة من سقاه النبي بكفه فمن شرب من كف النبي صلى الله عليه وسلم لا يظمأ بعدها أبداً.

تفسير سورة التغابن
مشاركة:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *