تخطى إلى المحتوى

خطبة عن السلام

مشاركة:

خطبة عن السلام بعنوان (الموت الزؤام لمن عاش بغير السلام) للشيخ محمد نبيه يوضح فيها معنى السلام وأهميته وآدابه وأثره على الأمم والشعوب وما هو أجر السلام.

خطبة عن السلام مع النفس والكون
خطبة عن السلام مع النفس والكون

معنى السلام والموت الزؤام

لفظ “الإسلام” مأخوذ من السلام، والسلام غاية كل عاقل؛ ولهذا كان من دخل في الإسلام في سلام وأمان، إن لم يكن في هذه العاجلة على التحقيق، فهو في تلك الآجلة على التأكيد.

ولفظ “السلام” في أصل اللغة – كما يقول اللغويون – يدل على الصحة والعافية، فالسلامة: أن يسلم الإنسان من العاهة والأذى.

ومن أسمائه تعالى: السلام؛ لسلامته مما يلحق المخلوقين من العيب والنقص والفناء.

ومن لفظ السلام أيضاً اشتق لفظ الإسلام، وهو الانقياد؛ لأنه يسلم من الإباء والامتناع.

ولفظ (السلام) ورد في القرآن الكريم بصيغ مختلفة في أربعين ومائة موضع، ورد في اثني عشر ومائة موضع بصيغة الاسم، من ذلك قوله عز وجل: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا). (سورة النساء:94)

وورد في ثمانية وعشرين موضعاً بصيغة الفعل، منها قوله سبحانه: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا). (سورة النور:27)

ولفظ (السلام) ورد في القرآن الكريم على سبع معان رئيسة، هي: اسم من أسماء الله، الإسلام، التحية المعروفة، السلامة من الشر، الثناء الحسن، الخير، خلوص الشيء من كل شائبة. وفيما يلي تفصيل ذلك.

الموت الزؤام: قال بن منظور: أنه الموت العاجل، أو السريع المجهز، أو الكريه، وقد رَجَّح هذا المعنى الأخير، أي أن معنى الموت الزؤام الراجح لديه: هو الموت الكريه الشنيع. وفي قوله: “وزَأَمَ الرجل يَزْأَمُ زَأْمًا وزُؤَامًا: ماتَ مَوتاً وَحِيّاً” فمعنى: ماتَ مَوتاً وَحِيّاً: أي مات موتاً سريعاً.

ومعنى الموت الزؤام في معجم المعاني الجامع: الْمَوْتُ الزُّؤَامُ: زَوَالُ الْحَيَاةِ فَجْأَةً، سَرِيعاً. موت زؤام: زُؤاف؛ عاجل سريع (الاستقلال التامّ أو الموت الزُّؤام).

أولاً: السلام بمعنى (اسم من أسماء الله): من ذلك قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ). (سورة الحشر:23)

فـ (السلام) في الآية اسم من أسمائه سبحانه.

ومن هذا القبيل قوله عز وجل: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ). (سورة الأنعام:127)

قال السدي: الله هو السلام، والدار الجنة. وأكثر المفسرين على أن (السلام) في هذه الآية هو الله، وداره الجنة.

ثانياً: السلام بمعنى (الإسلام): من ذلك قوله سبحانه: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ). (سورة المائدة:16)

قال السدي: سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه، وابتعث به رسله، وهو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملاً إلا به، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا المجوسية.

ونحو ذلك قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً). (سورة البقرة:208)

يعني: الإسلام، كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره.

ثالثاً: السلام بمعنى (التحية المعروفة): من ذلك قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) (سورة الأنعام:54)

قال عكرمة: نزلت في الذين نهى الله عز وجل نبيه عن طردهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام.

وقال ابن كثير: فأكرمهم برد السلام عليهم، وبشرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم؛ ونحو هذا قوله سبحانه: (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ). (سورة النور:61)

رابعاً: السلام بمعنى (السلامة من الشر): من ذلك قوله سبحانه: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا). (سورة هود:48)

أي: بأمن منا أنت ومن معك من إهلاكنا.

قال القرطبي: أي: بسلامة وأمن؛ ومن هذا القبيل قوله سبحانه: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ). (سورة الحجر:46)

أي: سالمين من عقاب الله.

خامساً: السلام بمعنى (الثناء الحسن): من ذلك قوله سبحانه: (سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ). (سورة الصافات:79)

قال ابن كثير: مفسِّر لما أبقى عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن، أنه يُسلَّم عليه في جميع الطوائف والأمم.

ونحو ذلك قوله تعالى: (سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ). (سورة الصافات:109)

قال الشوكاني: السلام: الثناء الجميل.

وقد يراد بـ (السلام) في هاتين الآيتين ونحوهما: السلامة من الآفات والشرور، وهو قول في تفسير الآيتين ونحوهما.

سادساً: السلام بمعنى (الخير): من ذلك قوله تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا). (سورة الفرقان:63)

قال الطبري: إذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول، أجابوهم بالمعروف من القول، والسداد من الخطاب.

وقال مجاهد: قالوا سداداً من القول؛ ونحو هذا قوله سبحانه: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ). (سورة الزخرف:89)

قال ابن كثير: لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيء، ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلاً وقولاً.    

سابعاً: السلام بمعنى (خلوص الشيء من كل شائبة): وذلك في قوله تعالى: (وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ). (سورة الزمر:29)

أي: رجلاً خالصاً لرجل. رُوي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما. وليس غيره في القرآن على هذا المعنى.

ولا يخفى، أن المفسرين قد يرجحون معنى على معنى، لدليل شرعي، أو نقل لغوي، أو مقتضى سياقي، ولا غرابة في ذلك، ما دام اللفظ يحتمل هذه المعاني المتعددة.

مفهوم السلام العالمي

يقترن تاريخ الحضارية البشرية منذ أقدم العصور باستقرار الأمن والسلام، فالسلام في مقدمة الحاجات الأساسية التي لا سبيل إلى تقدُّم الفرد والمجتمع قبل إشباعها.

ومن ثم فقد استقرَّ في ضمير الإنسان هدفًا أصيلاً يسعى إلى بلوغه، وقيمة دينية واجتماعية، يضحي بالكثير من وقته وجهده وماله – بل بنفسه أحيانًا – في سبيل تثبيتها.

فلقد خُلق الإنسان اجتماعيًّا بالطبع، وأدركَت الجماعاتُ البشرية منذ فجر التاريخ أن إقرار الأمن والسلام بينها هو الدعامة الأولى لتعاونها، في سبيل تحقيق مصالحها المشتركة، التي تكفل لها الاستمرار في البقاء، والسير في مضمار الرقي والنهوض.

ذلك أنها وعَت بالتجربة أن الشِّقاق والتنازع من شأنهما أن يُضعِفا الروابط بين بعضها وبعض، وقد يستفحلان حتى يقطعا هذه الروابط، فتشن إحداهما الحربَ على الأخرى، الأمر الذي يؤدِّي إلى إلحاق أضرار بالغة بالمنتصر والمنهزم على السواء.

فلا غَرو أن كان السلام من أهم المبادئ التي دعَت إليها الرسالات السماوية، وأن يؤكد الدين الإسلامي هذا المبدأ كهدفٍ من أهدافه السامية وكوسيلة – من الوسائل في نفس الوقت – لتحقيق سائر الأهداف، وليس ثمةَ دليل على أَولوية السلام بين القيم الإنسانية التي أرساها الإسلام من أن الله تعالى سمَّى به ذاتَه سبحانه، فكان اسمًا من أسماء الله الحسنى (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) (سورة الحشر:23)

كذلك فقد سمى الله دينه الحق بالإسلام، وسمى أهله بالمسلمين: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). (سورة آل عمران:85)

ومن الواضح أن مصدر هذه التسمية هو نسبتها إلى السلام، وهو نقيض العدوان، كما تدل على ذلك أرجح التعاريف.

ولتأكيد معنى السلام كفاية أساسية في العقيدة اتَّخذه الإسلام شعارًا لأهله من مختلف أنحاء العالم، فهو تحية المسلم التي يرددها حين يلقى أخاه المسلم أو يودعه، وهو كلمة الختام التي يكرِّرها مرتين في صلواته الخمس كل يوم.

وليس ثمة تعظيم للسلام أكبر من أن ينص عليه في شعائر إحدى الفرائض الإسلامية الخمس جنبًا إلى جنب مع ذكر الله ورسوله، ترسيخًا له في نفوس المسلمين، وتعميقًا لمعناه في أذهانهم، وحثًّا لهم على انتهاج طريقه.

إن النفس الإنسانية بطبيعتها أمَّارة بالشر، وهي في سبيل تحقيق مطامعها قد تنحرفُ عن الطريق السويِّ، فيعمد الفرد أو الجماعة إلى التنازع مع الآخرين لتنفيذ أغراضه الذاتية.

وقد يصل التنازع بين الجماعات المختلفة إلى حد الالتجاء إلى البطش والعدوان، فتثور الحروب ويتسع نطاقها حتى تشمل كثيرًا من بِقاع الأرض؛ مما يؤدِّي إلى انهيار المدنيات التي شادتها الشعوبُ بعد تضحيات، وإلى عودتها القهقري إلى مرحلة التخلُّف، واضطرارها مرغمة إلى دفع الثمن غاليًا في سبيل تعويض هذا التخلف والتقدم إلى الأمام.

ولم تغب هذه الحقيقة عن الإنسان في كافة المراحل التي خاضتها البشريةُ منذ نشأتها الأولى، فكان العمل على إقرار السلام عن طريق إقامةِ العلاقات الودِّية وعقد المواثيق والمعاهدات بين العشائر والقبائل والشعوب من أهمِّ الأغراض التي سعَت إليها الجماعات.

ومن أجل ذلك أيضًا كثرت التفسيرات حول مفهوم السلام وتحديدِ مقوماته، كما يدل على ذلك استعراض تاريخ الأديان والفلسفات والمذاهب الفكرية المختلفة.

وقد ظل السلام معنًى شائعًا غير محدد، يختلف تفسيره باختلاف الزمان والمكان وطبائع الشعوب، فكان هناك سلامٌ روماني، وسلام مسيحي، وأنواع أخرى من السلام.

حتى جاء الإسلامُ في القرن السابع الميلادي؛ فحدَّد مضمونَه، وأرسى له – لأول مرة – قواعد وأسسًا واضحة لا تحتمل الاختلاف في التأويل، فالسلام في الدين الإسلامي ضرورة لا غِنى عنها لصلاح العالم وخيره وتقدُّمه.

ومن ثَم فهو غاية ينبغي أن تحتل مكانتها في الصدارة بين الغايات الحميدة التي يدعو إليها، أما جوانبه فلقد حدَّدها في السلام بين العبد وبين نفسه، ثم السلام بينه وبين الله تعالى، ثم السلام بينه وبين سائر الناس.

فلكي يعيش المرءُ في أمن، يكفل له التفرُّغ لبناء حياته، والإسهام في بناء العقيدة والمجتمع وتنميتهما؛ يجب أن يُؤمن بالسلام سبيلاً لذلك، وأن يدعم إيمانه بالسلوك والعمل الإيجابي، فإذا جاءه أخٌ له في الإنسانية يبتغي التعارف والألفة والتعاون، فليمد له يدَه وليمنحه ثقته وليتعاون معه، وبذلك تصلح النفوسُ ويزايلها القلق، فينصلح المجتمع وتتقدم البشرية.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (سورة الحجرات:13)

وقول السلام في الشريعة الإسلامية واجب على المسلم كلما جاءه أحد المؤمنين بدين الله الحق: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ). (سورة الأنعام:54)

بل إن قولة السلام واجبة حتى لمن اتَّسم بالفظاظة وسوء الخُلق؛ حتى لا يتحول الأمرُ إلى صِراع ينتهي بالخصومة والعدوان، وتترسب عنه أحقاد كامنة، لا تلبث أن تشعل الحرب من جديد للأخذ بالثأر، وتتوالد بذلك العداوات، وتستمر الحروب التي كانت بدايتها الأولى لا تَعْدُو لفظًا جارحًا أو سلوكًا نابيًا؛ (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا). (سورة الفرقان:63)

على أن السلام في الإسلام لا ينصرف إلى معنى الضعف والاستسلام، فالمؤمن القويُّ خير من المؤمن الضعيف.

لذلك كان انتهاج سبيل السلام وقفًا على رغبة الطرف الآخر غير المسلم وعلى سلوكه؛ فإذا كان متمسكًا به، عاملاً على إقامته، وجب معاملته بالمثل، أما إذا لجأ إلى القوة، فإن الحرب مشروعة؛ لأنها حرب دِفاع لا عدوان: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). (سورة البقرة:190)

(فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ). (سورة البقرة:194)

(لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)). (سورة الممتحنة)

ويتبين بجلاء من هذه الآيات الكريمة أن السلامَ مبدأٌ جوهري في الإسلام، يلتزم به المسلمون جميعًا، ولا يجوز لهم الخروج عليه إلا في حالتين تصبح فيهما الحرب ضرورة شرعيَّة لا مفر منها؛ وهُما محاربة المشركين إقرارًا لدين الله، وردُّ العدوان دفاعًا عن النفس.

ولما كان السلام هو الأصل، والحرب هي الاستثناء؛ فلقد أمر اللهُ بإنهاء القتال إذا عدل العدوُّ عن العدوان، وأفصح بقوله وفعله عن رغبته في السلام؛ (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا). (سورة الأنفال: 61)

والتاريخ الإسلامي حافلٌ بالوقائع الثابتة، التي تؤكد هذا المبدأ العظيم من المبادئ الإسلامية، وما أشد حاجتنا في عالم اليوم الذي تفرَّقَت فيه المذاهب وانقسمت الدول إلى معسكرين متطاحنين، يخشى أن تؤدي حدة الصراع بينهما إلى انغماس العالم بأسرِه في أَتون حربٍ مدمِّرة، وتهديد الحضارة الإنسانية، بل الجنس البشري قاطبة بالفناء.

ما أشد حاجتنا إلى أن نعود إلى تعاليمنا الأصيلة، وأن نبشر بها التزامًا بقواعد الشريعة الغراء، ونشرًا لمبادئ جمهوريتنا الناهضة في الدعوة إلى نبذ الحرب، وحل المشكلات عن طريق الوسائل الودية، وهي مبادئ تستلهم دينَنا القويم، وتستقي أصولها من ينابيعه الخالدة.

السلام في القرآن والسنة

يهتمُّ الإسلام كُلَّ الاهتمام بقضايا الإنسان وجميع أموره، صغيرها وكبيرها، ويزداد اهتمامُه بكل ما يُقوِّي رابطة المحبَّة بين المسلمين، ويساعد على تقوية أواصر التراحُم والتوادِّ والتآلُف حتى يتكوَّن المجتمع المتعاون على البر والتقوى، والمتماسك تماسكًا قويًّا كأنه بنيان مرصوص.

ولهذا حرص الإسلام على تهذيب النفوس وتربيتها على نظام رباني، فيه مراعاة لجميع الظروف والأحوال التي يكون عليها الإنسان، وفيه الحالات المختلفة، ووضع العلاج المناسب لكل حالة.

فإن كان لكل قومٍ تحيَّتُهم التي يُعبِّر بها الواحد فيهم عن مشاعر السعادة نحو مَنْ يُحيِّيه والتي قد يضمنها تمنياته له وأطيب أمانيه، فإن تحية الإسلام ربانية المصدر.

فقد نزل من السماء قرآن يُنظِّم أساليب المجاملات بين المسلمين، ويُنظِّم آداب الدخول على الآخرين، وآداب المجالس والكلام والمناجاة، وغير ذلك مما هو مذكور في الكتاب العزيز، والسلام ثابتٌ بالكتاب والسُّنَّة.

السلام في القرآن الكريم

قال الله تعالى: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). (سورة الأنعام:54)

وقال سبحانه: (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). (سورة النور:61)

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (سورة النور:27)

وقال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا). (سورة النساء:86)

وقال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25)). (سورة الذاريات)

السلام في السنة المطهرة

في الصحيحين عن عبدالله بن عمرو بن العاص: أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وتَقْرَأُ السَّلَامَ علَى مَن عَرَفْتَ ومَن لَمْ تَعْرِفْ). (صحيح البخاري:12)

وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ علَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِراعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ علَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ المَلائِكَةِ، جُلُوسٌ، فاسْتَمِعْ ما يُحَيُّونَكَ؛ فإنَّها تَحِيَّتُكَ وتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فقالَ: السَّلامُ علَيْكُم، فقالوا: السَّلامُ عَلَيْكَ ورَحْمَةُ اللَّهِ، فَزادُوهُ: ورَحْمَةُ اللَّهِ). (صحيح البخاري:6227)

وروى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب قال: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبع: بعيادة المريض، واتِّباع الجنائز، وتشميت العاطس، ونُصْرة الضعيف، وعون المظلوم، وإفشاء السلام، وإبرار القسم”. (صحيح البخاري:6235)

وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ علَى شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بيْنَكُمْ). (صحيح مسلم:54)

وروى الترمذي في سننه عن عبدالله بن سلام، قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: (أَيُّها الناسُ أَفْشُوا السلامَ، وأَطْعِمُوا الطعامَ، وصَلُّوا والناسُ نِيَامٌ، تَدْخُلوا الجنةَ بسَلَامٍ). (سنن الترمذي:2485)

وروى البخاري في صحيحه عن عبدالله بن مسعود، قال: “كنا إذا صلَّينا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قلنا: السلام على الله قبل عباده – أي: قبل السلام على عباده، أو من جهة عباده، فقيل: قد تكون بسكون الباء مع فتح القاف، وقد تكون بفتح الباء مع كسر القاف – السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان وفلان، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أقبل علينا بوجهه، فقال: (إنَّ اللَّهَ هو السَّلَامُ، فَإِذَا جَلَسَ أحَدُكُمْ في الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، والصَّلَوَاتُ، والطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّها النبيُّ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وعلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فإنَّه إذَا قالَ ذلكَ أصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ في السَّمَاءِ والأرْضِ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ، ثُمَّ يَتَخَيَّرْ بَعْدُ مِنَ الكَلَامِ ما شَاءَ). (صحيح البخاري:6230)

وروى البخاري في صحيحه معلقا عن عمار بن ياسر، ووصله عبد الرزاق عن عمار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاثٌ من جمعهن فقد جمع الإيمانَ: الإنصافُ من نفسِك، وبذلُ السلامِ للعالمِ، والإنفاقُ من الإقتارِ). (الكلم الطيب:197)

أهمية السلام

ومما لا شك فيه أن الأمم على اختلافها محتاجة إلى السلام، فالبشر لا يمكن لهم الحياة في محيط يفتقد السلام والأمن، والأمة الإسلامية كغيرها من الأمم تعد السلام من أهم المطالب الأساسية والضرورية لوجودها واستمرارها.

وبالتالي تتطلع لاستتبابه في شتى مناحي الحياة سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، ومن هنا كان حقها في الدفاع عن أمنها وسلامتها ورخائها، ضد أي اعتداء خارجي أو داخلي.     

إن ديننا الإسلامي هو دين التسامح والمحبة والسلام، وهو عقيدة قوية تضم جميع الفضائل الاجتماعية والمحاسن الإنسانية، والسلام مبدأ من المبادئ التي عمق الإسلام جذورها في نفوس المسلمين، وأصبحت جزءاً من كيانهم، وهو غاية الإسلام في الأرض.

الإسلام والسلام يجتمعان في توفير السكينة والطمأنينة ولا غرابة في أن كلمة الاسلام تجمع نفس حروف السلم والسلام، وذلك يعكس تناسب المبدأ والمنهج والحكم والموضوع.

وقد جعل الله السلام تحية المسلم، بحيث لا ينبغي أن يتكلم الإنسان المسلم مع آخر قبل أن يبدأ بكلمة السلام، حيث روى الترمذي بإسناد حسن عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (السَّلَامُ قَبْلَ الْكَلَامِ)، وسبب ذلك أن السلام أمان ولا كلام إلا بعد الأمان وهو اسم من أسماء الله الحسنى.

ومما لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء سلاماً ورحمةً للبشرية ولإنقاذها وإخراجها من الظلمات الى النور حتى يصل الناس جميعاً إلى أعلى مراتب الأخلاق الإنسانية في كل تعاملاتهم في الحياة.

ومن المعروف أن العالم بأسره وخاصة العرب قد شهد حروبا كثيرة في زمن نشأة الرسول وقبل بعثته، فكانت القبائل العربية تتقاتل فيما بينها أو مع القبائل الأخرى بسبب أو بدون سبب.

وقد جاء الاسلام الحنيف ليخرج الناس من هذه الحياة السيئة والصعبة وينقلهم الى حيث الأمن والامان والسكينة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصا على إبعاد الناس تماما عن الحروب وعن كل ما يؤدي إليها، وكان صلى الله عليه وسلم ايضاً يبحث دائما عن الطرق السلمية والهادئة للتعامل مع المخالفين له.

إقرار السلام لا يعني انتفاء الحرب تماماً، بل إن الحرب وضعت في الشريعة لإقرار السلام وحمايته من المعتدين عليه، وقد أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين المؤمنين بأن يقاتلوا في سبيله، والله هو السلام، وأمرهم بأن يقاتلوا المعتدين وينصروا المعتدى عليهم الآمنين المسالمين.

إن السلام بمفهومه السلمي هو أمنية ورغبة أكيدة يتمناها كل إنسان يعيش على هذه الارض، فالسلام يشمل جميع مناحي الحياة ويشمل الأفراد والمجتمعات والشعوب والقبائل، فإن وجد السلام انتفت الحروب والضغائن بين الناس، وعمت الراحة والطمأنينة والحريّة والمحبة والمودة بين الشعوب.

وفي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة عدة قواعد وأحكام ينبني عليها مفهوم السلام، مما يشكل قانوناً دولياً يسير عليه العالم.

وهذه القوانين والشروط الواجب توفرها حتى يتحقق السلام تظهر في المساواة بين الشعوب بعضها البعض، والإسلام يُقرِّر أنَّ الناسَ، بغض النظر عن اختلاف معتقداتهم وألوانهم وألسنتهم ينتمون إلى أصلٍ واحدٍ، فهم إخوة في الإنسانية.

ومنه ما رواه الترمذي عن ابن عمر بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة فقال: (يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ قد أذهبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليَّةِ وتعاظمَها بآبائِها فالنَّاسُ رجلانِ: برٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللَّهِ، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللَّهِ، والنَّاسُ بنو آدمَ، وخلقَ اللَّهُ آدمَ من الترابِ، قالَ اللَّهُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)). (صحيح الترمذي:3270)

السلام ضرورة حضارية طرحها الإسلام منذ قرون عديدة من الزمن باعتباره ضرورة لكل مناحي الحياة البشرية ابتداء من الفرد وانتهاءً بالعالم أجمع فبه يتأسس ويتطور المجتمع.

وقد حان الوقت لنقف على عتبات المجتمع الدولي ونقود أجيالنا إلى لغة الحوار ونصرخ بصوت عال لا للحروب لا للإرهاب لا للقتل لا للدمار ولا للعنف.

كما أن الوفاء بالعهود، ومنع العدوان، وإيثار السلم على الحرب الا للضرورة وإقامة العدل والانصاف، ودفع الظلم، من القواعد الأساسية لتحقيق السلام بين الشعوب والمجتمعات، فلا يعتدي أحدٌ على حق أحدٍ، ولا يظلم أحدٌ أحدًا، فالإسلام يسعى دائما الى استقرار الأمة الاسلامية، كما يستعى الى استقرار علاقات المسلمين بالأمم الاخرى.

لقد بنى الإسلام سياسته على السلام فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض من جهة، وفيما بينهم وبين غيرهم من الأمم من جهة أخرى، فالمسالمة والسلام من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، هي أساس العلاقة الأصلية السوية بين الناس، علاقة هادفة في ذاتها لتحقيق الأمن والخير والتعاون بين البشر، علاقة لا يمكن لمجتمع مسلم الانتقال لغيرها إلا في ضوء ظروف استثنائية تفرض ذلك، كتدخل أحدهم في الشؤون الداخلية للدولة المسلمة أو اعتداء مسلح أو إثارة فتن وتهديد الأمن والسلامة.

نستطيع أن نجزم أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي عني عناية فائقة بالدعوة إلى السلام، فالسلام الذي يسعى هذا الدين الحنيف إلى تثبيت دعائمه داخل المجتمعات الإسلامية وفي خارجها قائم على أسس إنسانية عادلة، فهو يسعى إلى استقرار علاقات المجتمعات الإسلامية بغيرها من المجتمعات، كما يسعى إلى استقرار مجتمعاته.

وهذه الحقيقة اعترف بها عدد من مفكري الغرب، فعلى سبيل المثال ها هو بروس بلورنس يطالب بضرورة تصحيح الأوصاف النمطية التي تصف الإسلام وأهله بالعنف، مشيرا إلى أن: الإسلام دين سلام والمسلمون ليسوا رهائن للعنف في طبيعتهم الأساسية، كما أكد أن العنف في الإسلام: (يظل الاستثناء وليس القاعدة).

إن أثر الإسلام في تحقيق السلام العالمي يتجلى في تعزيز التعايش السلمي وإشاعة التراحم بين الناس ونبذ العنف والتطرف بكل صوره ومظاهره، وكذلك في نشر ثقافة الحوار الهادف بين أتباع الأديان والثقافات لمواجهة المشكلات وتحقيق السلام بين مكونات المجتمعات الإنسانية وتعزيز جهود المؤسسات الدينية والثقافية في ذلك.

إن للسلام العالمي شأناً عظيماً في الاسلام، فما كان أمراً شخصياً ولا هدفاً قومياً او وطنياً بل كان عالميا وشموليا، فالسلام هو الأصل الذي يجب أن يسود العلاقات بين الناس جميعاً.

فالمولى عز وجل عندما خلق البشر لم يخلقهم ليتعادوا أو يتناحروا ويستعبد بعضهم بعضاً، وإنما خلقهم ليتعارفوا ويتآلفوا ويعين بعضهم بعضا، فالإسلام يدعو الى استقرار المسلمين واستقرار غيرهم ممن يعيشون على هذه الارض، ويكشف لنا التاريخ أن جميع الحضارات كانت تواقة من أجل تحقيق السلام العالمي.

من خلال السّلام يمكن للإنسان بثُّ أفكاره التي من المُمكن أنّها اندثرت خلال الحروب بالعنف والتّدمير، أو على الأقل تمّ تشويهها، لهذا فإنّ رسول الله محمّد عليه الصّلاة والسّلام وعلى الرّغم من صعوبة الشّروط التي اشترطها الكُفّار على المسلمين في صُلح الحديبيّة إلا أنّه قَبِلَ بها في مُقابل الإبقاء على الهدنة عشر سنوات بين المسلمين وكفّار مكّة.

السلام يُمكّن الشّعوب من التعلّم، واكتسابَ ونشر الثّقافة، وبناء الحضارات، والنّهوض بالدّولة اقتصاديّاً واجتماعيّاً؛ فالبناءُ لا يكونُ إلا في أوقات السّلم والأمن.

والسّلام يجعل النّاس على وعي كافٍ لخطر الدّخول في الحروب والانشغال بها وبمُتطلّباتها وتأثيرها عليهم، والتي ستُكلّفهم حياتهم مُقابل هذه الغطرسة البشريّة.

السّلام هو الذي يُصدّع الطّريق أمام تُجّار الحروب الذين سيكون من مصلحتهم افتعال الحروب وإشعالها، والذين يرغبون بدوامها لوقت طويل لأجل زيادة أرباحهم من الأسلحة والذّخائر، وبالتّالي زيادة أرباحهم وطمعهم. الحروب تُقدِّم أسوأ ما في الإنسان، وتُقويّه لصالح الشرّ ودمار البشريّة، والسَّلام يُقدّم أفضل ما بداخله.

والسلام بيئة مُشجّعة للإبداع ووسائله؛ فهو الذي يُحفّز النّاس على الإبداع وزيادة الجمال والإنتاج، على عكس الحروب التي تُنتج الدّمار والخراب والفساد.

وبالسلام ينقل الإنسان إلى آفاقٍ سماويّة روحانيّة عالية، إذ يُشجّع على انتشار الروحانيّات والسّكينة ويُشيعها بين الشّعوب.

السلام يُقرّب بين النّاس ويجمعهم على المحبّة والتّعايش، والحروب تُفرّقهم وتُقطّع نسلهم وتُبيدهم.

السّلام يرفعُ الإنسانية إلى مُستوى الوجود الاجتماعيِّ المُتحضِّر، في حين تقودُ نحو الانزلاق صوب الهمجية.

أثر السلام على الفرد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان لكي يحيا في أمان واطمئنان وسلام، ولم يخلقه أبداً لكي يقتل أو يبيد شعب.

ومن الممكن أن يتمكن المرء من تحقيق كل ما يتمناه في الوقت الذي ينعم فيه بالسلام، أما في الوقت الذي يقضيه في الحروب والنزاعات والكوارث، فلا يتمكن أبداً من إنجاز أي شيء.

فعقل الإنسان يحتوي على قوة لا نهائية، وكل ما يحتاج إليه، لكي تظهر هذه القوة هو عدم المرور بأزمات أو حروب أو ضغوط، لأن كل هذا يقلل من القدرات العقلية لديه ويجعله كائن لا يفعل سوى الشعور بالخوف.

السّلامُ يحمي الإنسان من المرض يتسبَّبُ انعدام السّلم والأمن بعدد من الاضطرابات والأمراض النفسيّة للأفراد، وقد تجرّ هذه الأمراض النفسيّة أمراضاً جسمانيّةً فتتفشّى بين كثير من النّاس.

وهذا ما ظهر جليّاً وحدثَ للشّعوب المُشاركة في الحربين العالميَّتين الأولى والثّانية؛ فصارت أعداد المُصابين بالاكتئاب والهستيريا والفوبيا والفصام والقلق وأمراض القلب والمعدة في تزايد.

أثر السلام على الشعوب

السلام هو الوسيلة الوحيدة التي تحقق الوفاق بين الشعوب، وعندما يتحقق هذا المعنى النبيل تسود بين الشعوب المعاني التي خُلق الإنسان من أجلها.

فنجد هناك تناغم بين البلاد مهما كان بينهم اختلاف سواء في العِرق أو الأصول أو الدين، وتبتعد عنهم تماماً روح الأنانية والكراهية التي لا يكون لها أساس.

ويعد أيضاً السلام هو الوسيلة الوحيدة لانتهاء أي نزاع بين دولة وأخرى وشعب وآخر، لذلك لجأت الشعوب إلى عقد الكثير من الاتفاقيات التي تدعم السلام وتعمل على إيقاف الحرب والنزاعات.

وعندما يتفشى السلام في العالم سوف نجد أن هناك بيئة صالحة لنمو الاستثمارات، وتحفيز الإنتاج وتبادله وازدهار الدول الفقيرة، لأن كل مظاهر النمو الاقتصادي سوف تتوافر، لذلك الأمان والاستقرار هم النتيجة الوحيدة للسلام.

أثر السّلامُ على الكائنات الحية كلها على وجه الأرض أو في الفضاء الذي يُحيط بالكرة الأرضيّة، ولا يقتصر تأثيرها على الإنسان وحده؛ وذلك لأنّ انعدام السّلم والأمن وشيوع الحروب يتجاوز أثره وخرابه ودماره إلى حدودٍ أبعد ممّا يُمكن تصوّره؛ فتتضرّر الحيوانات وتفقد مساكنها وبيئاتها، وتُحرَق الأشجار والغطاء النباتيّ الذي يُفيد كُلّاً من الحيوان والإنسان، كما تفنى الموارد. وتُقسّم آثار الحروب وانعدام السّلم على البيئة إلى قسمين:

آثار مُباشرة: كالتلوّث البيئيّ النّاجم من قصف مدفعيّ لمواقعَ صناعيّةٍ، والتّدمير المُتعمّد للموارد الطبيعيّة، والمُخلّفات العسكريّة وحطام البُنى التحتيّة المُستهدَفة.

آثار غير مُباشرة: كالآثار البيئية التي يَتركُها النّازحون خلفهم من خراب ومُلوّثات، وانهيار المنظومة الإداريّة المُخطِّطة للحفاظ على البيئة، وانشغال النّاس والحكومات بعد الحروب بالإيواء والإطعام والإعمار، فيذهب التّمويل كلّه لهذه الغايات، وينعدم التّمويل لحماية البيئة.

ومن هنا كان طبيعيا أن نطالب بتجنيد العقول والأقلام الإسلامية لتوضيح حقيقة هذا الدين السامي الداعي للسلام.

ولم يكن غريبا أن نطالب بتكثيف الدراسات لتصحيح هذه الأفكار على كافة الأصعدة الداخلية والخارجية، فإن كان العالم يفتقد لصوت الحق في هذه القضية، فأبناء الإسلام أيضا بحاجة للاستيعاب والتعايش مع الرؤية الإسلامية للعلاقات الإنسانية، من خلال الوقوف على موقف الدين الإسلامي السامي من السلام.

كيف لا و السلام هو الحياة الطبيعية التي لابد أن تحيا بها كل المجتمعات الإنسانية، لأنه هو العامل المؤثر في حياة البشر، ويرتبط السلام بالأمان والاستقرار، والسلام عندما يكون في دولة تنتشر فيها مظاهر التقدم والرخاء.

أما عن مفهوم السلام في تعريفه العام هو استمرار الأمان وزوال الصراع والحروب، مما ينتج عنه استمرار للقيم النبيلة وعادات الاحترام الكامل والخضوع للسيادة، والتمتع بالحريات والحقوق والاستماع للآراء الأخرى، وتعاون الشعوب مع بعضها وتبادل الثقافات واختفاء ثقافة العنف.

قام مؤرخ بريطاني يدعى “أرنولد توينبي” بتلخيص معنى السلام فقال: “عِش ودع غيرك يعيش”، وقد قصد بهذه المقولة أن تعيش الشعوب بجانب بعضها البعض، وأن يعيش الأفراد بجانب بعضهم البعض، فلا تعتدي دولة على أخرى ولا فرد على فرد فيهم السلام، ويعَد السلام نعمة لكل البشرية، لذلك كان نقيضه الحرب وهي لعنة تقضي على الأخضر واليابس.

السّلامُ يُحوّل الرّديء إلى حسن إنّ الجنس البشريّ يمتلك صفةً فريدةً من نوعها وهي تحويل السّالب إلى الموجب، وفقاً للطبيب النفسيّ الألمانيّ ألفريد إدلر، وهذه الصّفة لا يُمكن أن تتحقّق إلا بالاستقرار النفسيّ الذي يُحقّقه السّلام، فدماغُ الإنسان كنزٌ للقوة اللامُتناهية، فإذا فقد طمأنينة النّفس وقت الأزمات والحروب فإنّه لن يستفيد من قدرته العقليّة بطريقة مُجدية، حيثَ إنّ الحروب والدّمار عقبةٌ في طريق التطوّر البشريّ؛ لأنّها توقّف مُسبّباته من طمأنينة وسكينة واستقرار. حين يتمكّن الإنسان من المُحافظة على السّلام في كل الأوقات فإنّ كثيراً من الإمكانات تتفتّح أمامه، وهذا ما يحدث عند تحويل السّالب إلى موجب.

آداب السلام في الإسلام

العمل على نشر السلام بين المسلمين جميعًا: روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ علَى شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بيْنَكُمْ). (صحيح مسلم:54)

وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعٍ، ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسِم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونهانا عن خواتيم أو عن تختُّم بالذهب، وعن شُرب بالفِضَّة، وعن المياثر، وعن القَسِّيِّ، وعن لبس الحرير والإستبرق والدِّيباج. (صحيح مسلم:2066)

عدم الاقتصار في إلقاء السلام على مَن يعرف فقط: ففي الصحيحين عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وتَقْرَأُ السَّلَامَ علَى مَن عَرَفْتَ ومَن لَمْ تَعْرِفْ). (صحيح البخاري:12)

الالتزام بالصيغة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم: روى الترمذي – وقال: حسنٌ صحيحٌ غريبٌ – عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليكم، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عشرٌ)، ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عشرون)، ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثون).

أن يقول المبتدئ: السلام عليك، وليس: عليك السلام: روى الترمذي – وقال حسنٌ صحيح – عن جابر بن سليم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام، فقال: (لا تقل عليك السلام، ولكن قُل: السلام عليك).

أن يُلقي السلام عند القدوم وعند القيام من مجلسه: روى الترمذي – وحسنه – عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتهَى أحدُكم إلى مجلِسٍ فليسلِّم، فإنَّ بَدا له أن يجلِسَ فليجلِس، ثمَّ إذا قامَ فليسلِّم فلَيسَتِ الأولَى بأحقِّ من الآخرةِ). (سنن الترمذي:2706)

أن يحرِص كل مسلم أن يكون هو البادئَ بالسلام: روى أبو داود – بسند صحيح – عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أولى الناسِ باللهِ من بدأهم بالسلامِ). (صحيح أبي داود:5197)

أن يُلقي المسلم السلام على أخيه إذا حال بينهما شيء: روى أبو داود – بسند حسن – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لقِي أحدُكم أخاه فليُسلِّم عليه، فإن حالت بينهما شجرةٌ أو جدارٌ أو حجر، ثم لقيه، فليُسلم عليه أيضًا).

إذا لم يسمَعوا السلام أعاده ثلاثًا حتى يسمعوا: روى البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قومٍ فسلَّم عليهم، سلَّم عليهم ثلاثًا. (صحيح البخاري:95)

أن يُسلم المسلم على مَن في بيته، فإن لم يجِدْ سلَّم على نفسه: لقوله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً). (سورة النور:61)

وروى الترمذي – وقال: حديث حسن صحيح غريب – عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بُنَيَّ إذا دَخلتَ علَى أهْلِكَ فسلِّم يَكُنْ برَكَةً علَيكَ وعلى أهْلِ بيتِكَ).

إذا مر بصبيان ألقى عليهم السلام: ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم، وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. (صحيح البخاري:6247)

وروى أبو داود – بسند صحيح – قال أنسٌ رضي الله عنه: انتهى إلينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلامٌ في الغلمان، فسلَّم علينا، ثم أخذ بيدي، فأرسلني برسالة، وقعد في ظل جدار – أوقال: إلى جدار – حتى رجعت إليه.

أن يُسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير: ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ علَى الماشِي، والماشِي علَى القاعِدِ، والقَلِيلُ علَى الكَثِيرِ). (صحيح البخاري:6233)

أن يُسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد: روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ علَى الكَبِيرِ، والمارُّ علَى القاعِدِ، والقَلِيلُ علَى الكَثِيرِ). (صحيح البخاري:6231)

الابتسامة عند إلقاء السلام ورده: روى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا، ولو أنْ تَلْقَى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ). (صحيح مسلم:2626)

روى الترمذي – وحسَّنه – عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونَهْيُك عن المنكر صدقةٌ، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقةٌ، وإماطتُك الحجرَ والشوكة والعَظْم عن الطريق لك صدقةٌ، وإفراغك مِن دلوك في دلوِ أخيك لك صدقةٌ).

المصافحة مع السلام: روى البخاري عن قتادة قال: قُلت لأنس: أكانتِ المصافحةُ في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. (صحيح البخاري:6263)

 وروى الترمذي – وحسنه – عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مِن مُسلمَينِ يلتقيانِ فيتصافحان إلا غُفر لهما قبل أن يفترقا).

ويجوز الجمع بين الإشارة والنطق بالسلام: روى الترمذي – وحسَّنه – عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها تُحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ في المسجد يومًا، وعُصبة من النساء قعودٌ، فألوى بيدِه بالتسليم، وأشار عبد الحميد بيده.

تعليم آداب السلام لمن لم يعرِفها: روى الترمذي – وحسَّنه – عن كلدة بن حنبل أن صفوان بن أُمية بعثه بلبنٍ ولِبَأ وضَغابِيس – صغير القثاء – إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي، قال: فدخلت ولم أُسلم ولم أستأذن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجعْ فقلِ السَّلامُ عليكم أأدخلُ؟)، وذلك بعدما أسلم صفوان. (صحيح الترمذي:2710)

رد السلام على غير المسلم بقوله: وعليكم: روى مسلم عن أنس رضي الله عنه أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أهل الكتاب يُسلِّمون علينا، فكيف نرد عليهم؟ قال: (قولوا: وعليكم). (صحيح مسلم:2163)

وفي الصحيحين عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ اليَهُودُ، فإنَّما يقولُ أحَدُهُمْ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْ: وعَلَيْكَ). (صحيح البخاري:6257)

من السلام سلامة الذوق

فالذوقُ كلمةٌ جميلة مُوْحِيَةٌ تَحْمِلُ في طياتها معاني اللطفِ، وحُسْنِ المعشر، وكمالِ التهذيبِ، وحسنِ التصرفِ، وتجنبِ ما يمنع من الإحراج وجرح الإحساسات بلفظ، أو إشارة أو نحو ذلك.

فهذه المعاني وما جرى مجراها تُفَسِّرُ لنا كلمة الذوقِ، وإن لم تفسرها المعاجمُ بهذا التفسير الملائم لما تعارف عليه الناس، وجرى بينهم مجرى العرف؛ فتراهم إذا أرادوا الثناء على شخص بما يحمله من المعاني السابقة قالوا: فلان عنده ذوق، أو هو صاحب ذوق.

وإذا أرادوا ذمَّه قالوا: فلان قليل الذوق، أو ليس عنده ذوق، وهكذا…

فالذوق بهذا الاعتبار داخلٌ في المعنويات أكثر من دخوله في الحسِّيات كذوق الطعام والشراب، وموطن الذوق في المعنويات يدور حول العقل، والروح، والقلب، وموطنه في عالم الحسيات لا يتجاوز اللسان، أو إحساس البدن بالملائم أو المنافر.

ولعلَّ لفظَ الذوقِ يَعْتَوِرُه ما يعتور بعضَ الألفاظِ في دلالتها، من حيث تطورُها، وانحطاطها؛ فهو بالمفهوم الذي مرَّ ذكره معنى سامٍ راقٍ.

ونصوص الوحيين – وإن لم تُشر للذوق بهذا اللفظ – حافلةٌ بما يرعاه، ويُعلي منارَه، ويحذر مما ينافيه.

ولو ألقيت نظرةً عامةً عَجْلى على شرائع الإسلام، وأصوله العظام كالصلاة والزكاة، والحج والصيام لرأيت ذلك رأي العين.

أليس المسلمُ مأموراً حالَ إتيانه للصلاة أن يكونَ على طهارة، وأن يأخذ زينته عند كل مسجد، وأن يأتي وعليه السكينة والوقار؟ وأن يخفض صوته حال مناجاته لربه؟

أليس منهياً عن رفع الصوت في المسجد، وعن أن يأتي وقد أكل ثوماً أو بصلاً أو نحو ذلك مما يتأذَّى منه المصلون؟

ألم يكن من أدب الزكاة أن تُعطى للفقير خُفْيةً، وعلى وجه يرفع خسيسته، ولا يصدع قناة عزته؟

ألم يُؤمرِ الحجاجُ بالسكينة، ولزوم التؤدة، وترك أذية إخوانهم؟

أليس الصيامُ من أعظم ما يُرهف الحس، ويرتقي بالذوق، ويسمو بالروح؟

أليس فيه شعور بالآخرين، وإحساس بما يعانون من عوز الفقر، وذلة الحاجة؟

ألم تأتِ الأحاديثُ النبويةُ الشريفة منوهةً بخُلوف فَمِ الصائم، وأنه عند الله أطيب من ريح المسك، مع ما فيه من رائحة قد لا تروق؛ جبراً لخاطر الصائم، ونهياً لمن قد يجد في نفسه أذىً من هذه الرائحة، أو كراهة لمن صدرت منه أن يتفوه بما لا يليق.

ثم إن الآثار الواردة في معاملة الناس على اختلاف طبقاتهم حافلةٌ بهذا المعنى، دالةٌ دِلالةً صريحةً على مراعاته.

وقل مثل ذلك في كثير من المناهي؛ فهي تحذر مما ينافي الذوق، أو يضعف جانبه.

ولا يقف الأمر عند سائر المعاملات حال السلم، بل يتعدى ذلك إلى حال الحرب؛ فيُراعى فيها جانبُ الذوق، وحسنِ المعاملة.

ولو ألقيت نظرةً في ما جاء في أدب الحرب في الإسلام لرأيت ما يقضي منه عجبك؛ فمن ذلك مجاملةُ رُسُل العدوِّ، وتركُ التعرض لهم بأذى؛ فقد يرسل العدوُّ رسولاً في شأن الصلح أو غيره مما فيه تخفيف شر الحرب؛ فَمِنْ حُسْنِ الرأي أن لا يُتَعَرَّض للرسل بأذى، وأن يكونوا في أمن حتى يعودوا إلى قومهم؛ فإن التعرض لهم بأذى يقطع صلة الرسالة بين الفريقين، ويسد طريق المفاوضات التي يُتَوسَّل بها إلى عدم الدخول في الحرب، أو إنهائها إذا كانت ناشبة.

ومكارم الأخلاقِ تأبى أن يُتَعَرَّض لرسول بأذى ولو أرسله قومه لإبلاغ ما عزموا عليه من محاربتنا، أو صدر منه كلام في تعظيم أمر قومه بقصد الفخر أو الإرهاب.

وقد جرى نظام الإسلام في الحرب على هذا الأدب المقبول.

روى أبو داود بسند صحيح عن أبي رافع قال بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقي في قلبي الإسلام فقلت: يا رسول الله إني والله لا أرجع إليهم أبدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنِّي لاَ أخيسُ بالعَهدِ ولاَ أحبسُ البردَ ولَكنِ ارجع فإن كانَ في نفسِكَ الَّذي في نفسِكَ الآنَ فارجع) قال: فذهبت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت. (صحيح أبي داود:2758)

ومن ذلك تجنب قَتْل مَنْ لا يُقَاتِلُ؛ فالإسلام يحرم قَتْلَ نساء المحاربين، وصبيانهم، والطاعنين في السن منهم، ورهبانهم إن لم يحاربوا.

روى أحمد في مسنده عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان.

وروى أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ: (اخْرُجُوا بِاسْمِ اللَّهِ، تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، لَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ). يعني الرهبان.

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لجيش أسامة رضي الله عنه: “وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له”.

وقال: “ولا تقتلوا طفلاً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة”.

ومن وصايا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأمراء الجيش: “ولا تقتلوا هرِماً، ولا امرأة، ولا وليداً، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات”.

ويلحق بهؤلاء في تجنب قتلهم المريضُ، والمقعدُ، والأعمى، والمجنون.

وكذلك روي أحمد بسند رجاله موثقون عَنْ حَنْظَلَةَ الْكَاتِبِ، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَرْنَا عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ، وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا النَّاسُ. قَالَ: فَأَفْرَجُوا لَهُ، فَقَالَ: (مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ)، ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ: (انْطَلِقْ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ: أَنْ لَا تَقْتُلَ ذُرِّيَّةً، وَلَا عَسِيفًا)، وهو الأجير.

وبهذا يظهر أن الإسلام إنما يَقْصِدُ من الحربِ قِتَالَ مَنْ يَقْصِدون لأن يُقَاتِلوا، ولا يصح القَصْد لقتل من ليس شأنه القتال.

ومن ذلك حسن معاملة الأسرى؛ فإذا وقعت طائفة من العدو المحارب في أسرنا لم يجز لأحد من الجنود أو غيرهم أن يمسهم بأذى، وإنما يرجع أمرهم إلى رأي ولي الأمر الواسع الخبرة بوجوه المصالح، فيعاملهم بما تقتضيه خطة الحزم، وما تمليه سماحة الأخلاق.

وذهب من علماء السلف كالحسن البصري وعطاء بن أبي رباح – رحمهم الله – إلى أن ولي الأمر يخير في الأسرى بين أن يطلقهم على وجه المن، أو يطلقهم بفداء، وتمسكوا في هذا بقوله: (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا). (سورة محمد:4)

فهذه إشارات سريعة تدل على عناية الإسلام بهذا الجانب، وكتب التفسير، والفقه، والأحكام، والآداب مليئة بما يقرر هذا المعنى.

وهكذا نجد أن الإسلام يرتقي بذوق أهله، وينأى بهم عن كل خُلُقٍ أو تَصَرُّفٍ يعاكس سلامةَ الذوقِ، أو يوهي حبالها.

ومع ذلك كله فإنك تلحظ خللاً كبيراً في هذا الجانب، وتشهد مظاهر عديدة من هذا القبيل تَمُرُّ بك كثيراً في حياتك اليومية.

وقد يكون ذلك الخلل أو المظهر صغيراً في عين من يقع فيه، ولكنه يُحدث فساداً عريضاً، وربما لا يبقى للمودة عيناً ولا أثراً.

فجديرٌ بالمسلم العاقل أن يرعى هذا الجانبَ، وحقيقٌ عليه أن يحذر مما ينافيه من الجفاء، والكزازة، والغلظة وما جرى مجرى ذلك.

وإن من علامات السعادة للإنسان أن يرزق ذوقاً سليماً مهذباً؛ فإنه إذا كان كذلك عَرَفَ كيف يستمتعُ بالحياة، وكيف يحترمُ شعورَ الآخرين ولا ينغص عليهم، بل يدخل السرور عليهم؛ فصاحب الذوق السليم قادرٌ على استجلاب القلوب، وإدخال السرور على نفسه وعلى من حوله.

وإذا ساد الذوق السليم في أسرة أو مجتمع رأينا كلَّ فرد من هؤلاء يتجنب جرح إحساس غيره بأي لفظ، أو عمل، أو إشارة، أو أي شيء يأباه الذوق.

ورأينا كل فرد يقوم بما أسند إليه من مسؤولية على أكمل وجه وأتمه.

إن الذوق السليم في الإنسان يرفعه إلى حد أن يتخير الكلمة اللطيفة، والتصرف الملائم الذي يمنع الإحراج، ويدخل السرور على الآخرين.

بل إن صاحب الذوق السليم يأبى النزاع، وحدة الغضب.

ولا يبالغ الإنسان إذا قال: إن رُقِيَّ الذوق أكثر أثراً في السعادة من رقي العقل؛ إن الذوق إذا رَقِيَ أَنِفَ من الأعمال الخسيسة، والأقوال النابية، والأفعال السخيفة.

أما من جفَّ طبعه، وكثفت نفسه، وقلَّ ذوقه – فلا تَسَلْ عما سيحدثه من شرخ في الناس، وما سيجلبه من شقاء لنفسه وغيره، فتراه لا يراعي مشاعرَ الآخرين، ولا يأنف من مواجهتهم بما يكرهون؛ فإذا ما حضر مجلساً، وابتدر الكلام وضَعْتَ يَدَك على قلبك؛ خشيةَ أن يَزِلَّ، أو يَفْرُطَ على أحد من الحاضرين.

فإذا ما وجد مجالاً يشبع فيه طبيعتَه النَّزِقَةَ الجهولَ – هام على وجهه، لا ينتهي له صياح، ولا تنحبس له شِرَّة.

فتارة يُذَكِّر الحاضرين بعيوبهم، وتارة يؤذيهم بلحن منطقه، وتارة يذكِّرهم بأمور يسوؤهم تَذَكُّرُها.

وفي العقد الفريد: “أكب رجل من بني مرة على مالك بن أسماء يحدثه في يوم صيف، ويُغِمّه، ويثقل عليه، ثم قال: أتدري من قتلنا منكم في الجاهلية؟ قال: لا، ولكني أعرف من قتلتم منا في الإسلام. فقال: من هم؟ قال: أنا قتلتني اليوم بطولِ حديثك، وكثرةِ فُضولك”.

وقال ابن القيم -رحمه الله-: ومنهم مَنْ مُخالطتُه حُمَّى الروح، وهو الثقيل البغيض العقل، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يُحْسِن أن ينصت؛ فيستفيدَ منك، ولا يعرفُ نفسه، فيضعُها في منزلتها.

بل إن تكلم فكلامُه كالعصى تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به؛ فهو يُحْدِثُ مِنْ فِيِهِ كلما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرّحا العظيمة، التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض.

فالرجل النبيل، ذو المروءة والأدب هو من يراعي مشاعر الآخرين، ويحفظ عليهم كرامتهم وماء وجوههم.

قال بعضهم: “صحبت الربيع بنِ خثيم عشرين عاماً ما سمعت منه كلمةً تعاب”.

وكذلك ترى قلة الذوق عند بعض الناس حتى في حال تأديتهم لشعائر الإسلام العظمى؛ فترى بعض الناس لا يراعي ذلك في الصلاة، فربما أتى ورائحته مؤذية كمن يأكل الثوم، أو البصل، أو يشرب الدخان.

وترى القلوب في بعض الأحيان في المساجد قد بلغت الحناجر، فلا يحتمل الواحد أدنى توجيه أو إشارة أو طلب تقدم أو تأخر.

وترى العراك الذي قد يصل إلى حد الاشتباك حول التكييف وما شاكله.

وقل مثل ذلك وأشد في الحج، فكم هي المآسي عند الطواف، ورمي الجمار، وعند الحلق أو التقصير، أمور لا تخفى على ذي لب.

ومن قلة الذوق ما يحصل في المقابر حال دفن الجنائز – فحدث ولا حرج؛ فهذا يرفع صوته، وذاك يكثر من التدبير في غير محله.

ثم إن التزاحم حول القبر، ومضايقة من يقومون بالدفن أمر يحزن القلب، ويعطل الناس.

ومن قلة الذوق في قيادة السيارة، ويتجلى ذلك في التهور في قيادتها، وقلةِ المراعاة لقواعد السير، ولبقية الناس ممن يسيرون في الأماكن العامة، وأذيةِ الآخرين بالتفحيط ورفع أصوات الغناء، ورمي المخلفات في الشوارع.

كذلك من قلة الذوق ما يفعله بعض سائقي السيارات؛ حيث يأخذ مكاناً كبيراً إذا أراد إيقاف سيارته في مكان عام، فيضيق على الناس، ويحرمهم من حقهم، ولو أنه وقف كما ينبغي لاتسع المكان، واستفاد منه عدد أكبر.

ومن قلة الذوق ما تراه عند إشارة المرور من قطع للإشارة، وتسبب في الحوادث، أو سلوك الاتجاه المعاكس فيؤزم على الناس.

ومن قلة الذوق ما يحدث في زفة الفرح من تفزيع الناس بالحركات الصبيانية من فرك إطار السيارة بالأسفلت والدوران الشيطاني ممن لا يبالي بالعواقب.

وأيضا من قلة الذوق: ما تراه عند ماكينات صرف الراتب حيث ترى بعض الناس يتخطى مَنْ قَبْلَهُ، وترى منهم من إذا جاء دَوْرُه في الصرف اشتغل بمكالمة عَبْرَ محموله، وإذا فرغ من مكالمته بدأ يبحث عن بطاقته، ثم إذا صرف وقف ينظر في كشف حسابه، وربما أطال الوقوف.

كل ذلك والناس على أحر من الجمر ينتظرون فراغه.

ولو أنه استعد للصرف قبل أن يأتي دوره، وانصرف حال انتهائه من غرضه لكان خيراً له، وأكمل في أدبه.

ومن قلة الذوق: ترك العناية بطريقة إلقاء السلام أو الدعاء؛ فربما يقولها بعض الناس بنبرة موحشة، موغرة للصدر؛ فتكون مجلبة للضغائن بدلاً من أن تكون برداً وسلاماً. وربما حرف في الإلقاء فقال سموعليكم وربما أساء الرد فقال سلامكاتوا

ومن قلة الذوق: ما يقع في البيع والشراء من كثرة المماكسة، وإذلال صاحب المتجر، أو صاحب الصنعة.

وأيضا من قلة الذوق: سوء الطلب للحاجة؛ فبعض الناس لا يُحسن ذلك؛ فتراه يلحف، ويلح، ولا يراعي الوقت المناسب.

ومن قلة الذوق: ما يقع في المكالمات والرسائل الهاتفية على وجه الخصوص؛ وكم حصل من جراء التفريط بذلك الأدب من إساءة ظن، وقيام لسوق العداوة.

ومن قلة الذوق ما تراه من الكتابات البذيئة على جدران الأماكن العامة؛ فهي تشوه وجه البلد حساً ومعنىً، وتربي على قلة الحياء، وربما كانت سبباً في شيوع الفاحشة.

كذلك من قلةُ الذوق: عدم مراعاة أدب المحادثة كالثرثرة، والاستئثار بالحديث، وكثرةِ الأسئلةِ وتَعَمُّد الإحراج فيها، والحديث بما لا يناسب المقام، والتعالي على السامعين، وترك الإصغاء للمتحدث، والاستخفاف بحديثه، والمبادرة إلى إكماله، والقيام عنه قبل إكمال حديثه، والمبادرة إلى تكذيبه.

ورفع الصوت بلا داعٍ، والشدة في العتاب، والغلظة في الخطاب، والجدال والمراء والخصومة، وبذاءة اللسان، والتفحش في القول، والتقعر في الكلام.

ومما يدخل في قلة الذوق: قلة مراعاة أدب المجالسة، كتتبع عثرات الجليس، وإظهار الملالة منه.

ومن ذلك تناجي الاثنين دون الواحد، والجلوس وسط الحلقة، والتفريق بين اثنين متجالسين دون إذنهما، وإقامة الرجل من مجلسه، والجلوس مكانه.

وبالجملة فالأمثلة على قلة الذوق كثيرة، وما مضى إنما هو إشارات ليس إلا.

فياليت جانب الذوق يلقى عناية ونصيباً من تعليمنا، ودروسنا، وخطبنا، وإعلامنا؛ لنتجنب كثيراً من الشرور التي ربما كان سببها التقصير في هذا الجانب

 أجر السلام

السلام اسمٌ من أسماء الله تعالى، هو تحيَّةُ أهل الجنة يوم يدخلونها، وهي دار السلام، فإذا دخلوها سلَّم بعضُهم على بعض؛ فرحًا بسلامتهم من عذاب الله تعالى، فهو دعاءٌ يحمل كلَّ معاني السلامة من كل أذى.

تفاوت الحسناتُ والأجورُ في موضوع السلام، فإذا قال: السلام عليكم فله (عشر حسنات) وإذا وصل إلى الرحمة، فله (عشرون حسنة)، وإذا وصل إلى البركة، فله (ثلاثون حسنة)؛ فلنحرص على تحصيل (الثلاثين حسنة) في كل سلام نبذله، فحاول تعويد نفسك على تحصيل ذلك في كل سلامك، ولو قمتَ بإحصائية مصغرةً محصولك اليومي من السلام خلال اليوم، لرأيتَ عجبًا في الأرباح لمن وفَّقه الله للسلام!

فحاول تعويد نفسك أن تصل إلى البركة في تسليمك وردِّكَ، سواء في المشافهة، أو المكاتبة، أو المكالمة، أو غيره، فهو خيرٌ عظيمٌ لكَ ولغيركَ.

عندما تُسَلِّمُ، فتأمَّلْ في سلامِكَ، واجعل قلبك حاضرًا؛ فإنه دعاء، ومن آداب الدعاء حضور القلب، مع ثبات أجرك بفضل الله وكرمه.

سلِّم على الصغير والكبير كليهما؛ ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم سلَّم على صبيان عندما مرَّ عليهم، كما في حديث أنس رضي الله عنه؛ بل هم أولى من غيرهم لأمرين:

  1. تربيتهم على السلام وبذله.
  2. رجاء إجابة دعوتهم برد السلام منهم؛ فهم ليس عليهم ذنوب؛ فهم أقرب إلى الإجابة، وهذا أمر مهم ينبغي الانتباه إليه، وعدم التقليل منه.

السلام عند دخول البيت مهم جدًّا؛ قال تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) (سورة النور: 61)

وفي سنن أبي داود قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ كلُّهم ضامنٌ علَى اللهِ عزَّ وجلَّ رجلٌ خرج غازيًا في سبيلِ اللهِ فهو ضامنٌ علَى اللهِ حتَّى يتوفَّاه فيدخِلَه الجنَّةَ أو يردَّه بما نال من أجرٍ وغنيمةٍ ورجلٌ راحَ إلى المسجدِ فهو ضامنٌ علَى اللهِ حتَّى يتوفَّاه فيدخلَهُ الجنَّةَ أو يردَّه بما نال من أجرٍ وغنيمةٍ ورجلٌ دخل بيتَه بسلامٍ فهو ضامنٌ علَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ). (صحيح أبي داود:2494)

قوله: (فهو ضامن على الله): قال ابن الملك: أي يعطيه البركة والثواب الكثير؛ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لأنس رضي الله عنه: (إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ).

وفي مشكاة المصابيح: وحاصل المعنى: أنه على الله بمقتضى وعده الصادق أن يحفظ كُلًّا من هؤلاء الثلاثة من الضرر والخيبة والضياع والآفة، ولفظ “البركة” في حديث أنس رضي الله نكرة، فهي عامة لكل بركة، وليست لك وحدَك؛ بل هي لك ولأهلك، فحافظ عليه.

عند قيامك من المجلس سلِّم، كما سلمت عند قدومك إليه، وليست الأولى بأحقَّ من الثانية كما ثبت في ذلك الخبر، فكلاهما ذِكْرٌ ودعاءٌ، فأنت تدعو الله أن يسلمهم من الآفات، حال وجودك معهم بسلامك الأول، وبعد ذَهابك عنهم بسلامك الثاني، فما أعظمَ الشريعة!

لا تجعل سلامك على من تعرف فقط؛ بل ابذل السلام لمن تعرف، ومَنْ لا تعرف؛ كسبًا للخير، وتعويدًا لغيرك، وبذلًا للمعروف، وإن من علامات الساعة أن يكون السلام للمعرفة فحسب، وهو الواقع اليوم عند الكثير، فانشرِ السلامَ، حتى في وسائل التواصُل، فهو مجال خصْبٌ لكسب الخير والأجر، وهو من أسباب تقارُب القلوب، وما يُدريك أنَّ أحدًا اقتدى بك، فكان سجيَّةً له.

وقد كان عبدالله بن عمر يُمسك بيد صاحبه، ويصحبه إلى السوق، ثم يرجعان، فيقول له صاحبه: يا أبا عبد الرحمن خرجنا وعدنا، ولم نشترِ، ولم نبعْ، فلمَ خرجنا؟ فقال: إنما خرجنا من أجل السلام.

إذا التقيتَ بأخيك، فحاول استثمار هذا اللقاء بأربعة أعمال عظيمة في السلام أثناء اللقاء:

  1. السلام.
  2. المصافحة.
  3. الابتسامة.
  4. الكلمة الطيبة.

فهذه أربعة أعمال صالحة تحصلها في دقيقة أو أقل.

وفي بدائع الفوائد ذكر ابن القيم (ثمانية وعشرين سؤالًا) عن السلام، وأجاب عليها، فراجعها فهي مفيدة جدًّا.

مشاركة:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *