تخطى إلى المحتوى

خطبة عن الوفاء وحفظ الجميل

مشاركة:

خطبة عن الوفاء وحفظ الجميل لأبي عرفات محمد نبيه يوضح فيها معنى الوفاء وتعريفه وأنواعه والآيات والأحاديث التي تحث وتحض على الوفاء وقصص عن الوفاء والآثار المترتبة على الالتزام بالعهد.

خطبة عن الوفاء وحفظ الجميل
خطبة عن الوفاء وحفظ الجميل

مقدمة عن الوفاء

إن الوفاء من الأخلاق الكريمة، والخلال الحميدة، وهو صفة من صفات النفوس الشريفة، يعظم في العيون، وتصدق فيه خطرات الظنون، وقد قيل: إن الوعد وجه، والإنجاز محاسنه، والوعد سحابة، والإنجاز مطره.

قال رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم: (ولا دِينَ لمن لا عهد له). (رواه أحمد)

نعم لن يترقى المسلم في مراتب الإيمان إلا إذا كان وفيًّا، يقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (سورة المائدة:1)، ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3). (سورة الصف)

إن الوفاء من أعظم الصفات الإنسانية، فمن فُقِد فيه الوفاء فقد انسلخ من إنسانيته، والناس مضطرون إلى التعاون، ولا يتم تعاونهم إلا بمراعاة العهد والوفاء به، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفع التعايش.

ما معنى الوفاء؟

تعريف الوفاء في اللغة

في معجم مقاييس اللغة لابن فارس: الوفاء في اللغة يدل على إكمال الشيء وإتمامه؛ ومن الوفاء: إتمام العهد وإكمال الشرط. ويقال: أوفيتك الشيء؛ إذا قضيته إياه وافيًا، وتوفيت الشيء واستوفيته، إذا أخذته كله حتى لم تترك منه شيئاً.

والوفاءُ ضد الغَدْر، يقال: وَفَى بعهده وأَوْفَى، بمعنى: ووفى بعهده يفي وفاءً، وأوفى إذا تمم العهد ولم ينقض حفظه.

تعريف الوفاء اصطلاحا

قال الجرجاني في التعريفات هو: ملازمة طريق المواساة، ومحافظة عهود الخلطاء.

وقيل: هو الصبر على ما يبذله الإنسان من نفسه، ويرهن به لسانه، والخروج مما يضمنه، وإن كان مجحفاً به، وهذا يعني الاستقامة على أمر الله ليحقق العبودية ويجليها.

ما هي أنواع الوفاء؟

إن للوفاء أنواعاً عديدة، فباعتبار الموفَى به هناك: الوفاء بالوعد وخلفه نفاق، والوفاء بالعهد والعهد نوعان:

  1. عهد مع الله عز وجل: فإنَّ الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا) (سورة الأعراف: 172)، فقد أخذ الله العهد على عباده جميعًا، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا؛ لأنَّه ربهم وخالقهم.
  2. عهد مع عباد الله: ومنه العهود التي تقع بين الناس، بين الإنسان وبين أخيه المسلم، وبين المسلمين وبين الكفار وغير ذلك من العهود المعروفة.

الوفاء بالعهد الذي بين العبد وربه

قد أمر الله تعالى بالوفاء بالعهد، فقال عزَّ وجلَّ: (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً). (سورة الإسراء: 34)

يعني أنَّ الوفاء بالعهد مسؤول عنه الإنسان يوم القيامة، يسأل عن عهده هل وفَّى به أم لا؟

قال تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ) (سورة النحل:91)، يعني ولا تخلفوا العهد، ومنه ما يلي.

فالعهود التي يرتبط المسلم بها درجات، فأعلاها مكانة، وأقدسها ذماماً، العهد الأعظم، الذي بين العبد وربِّ العالمين.

فإنَّ الله خلق الإنسان بقدرته، وربَّاه بنعمته، وطلب منه أن يعرف هذه الحقيقة، وأن يعترف بها، وألا تشرد به المغويات، فيجهلها أو يجحدها.

قال تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61). (سورة يس)

كيفية الوفاء بالعهد مع الناس

الوفاء في سداد الدين

اهتمَّ الإسلام بالدَّيْن؛ لأنَّ أمره عظيم، وشأنه جسيم، وقد أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم على قضاء الدين، وكان لا يصلي على الميت إذا كان عليه دين حتى يُقضى عنه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن أخَذَ أمْوالَ النَّاسِ يُرِيدُ أداءَها أدَّى اللَّهُ عنْه، ومَن أخَذَ يُرِيدُ إتْلافَها أتْلَفَهُ اللَّهُ). (صحيح البخاري:2387)

الوفاء بشروط عقد النكاح

روى أصحاب الكتب الستة عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا به ما اسْتَحْلَلْتُمْ به الفُرُوجَ). (صحيح البخاري:2721)

قال الخطابي: الشروط في النكاح مختلفة؛ فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقاً، وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث، ومنها ما لا يوفى به اتفاقاً، كسؤال طلاق أختها، ومنها ما اختلف فيه، كاشتراط أن لا يتزوج عليها، أولا يتسرى، أولا ينقلها من منزلها إلى منزله.

الوفاء بين الزوجين يجعل الأسر مستقرة، والبيوت مطمئنة، فيكون رابط الوفاء بينهما في حال الشدة والرخاء، وفي العسر واليسر.

الوفاء بإعطاء الأجير أجره

روى بن ماجه بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفَّ عرقه).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قالَ اللَّهُ: ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولم يُعطِه أجرَه). (صحيح البخاري:2227)

وفاء العامل بعمله

وفاء العامل بعمله بأن يعمل العامل، ويعطي العمل حقه باستيفائه خاليًا من الغش والتدليس.

وفي شعب الإيمان البيهقي عن عاصم بن كليب الجرمي قال: حدثني أبي كليبٌ: أنَّه شهد مع أبيه جنازة شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا غلام أعقل وأفهم، فانتهى بالجنازة إلى القبر، ولم يمكن لها.

قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سووا لحد هذا) – حتى ظن الناس أنه سنة – فالتفت إليهم، فقال: (أما إنَّ هذا لا ينفع الميت ولا يضرُّه، ولكن الله يحبُّ من العامل إذا عمل أن يحسن).

الوفاء بالنذر

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، ومَن نَذَرَ أنْ يَعْصِيَهُ فلا يَعْصِهِ). (صحيح البخاري:6696)

ويجب الوفاء بالنذر إذا كان نذر طاعة.

الوفاء بما التزم به من بيع أو إجارة

الوفاء بما التزم به من بيع أو إجارة، وغير ذلك من المعاملات المالية ما دامت مشروعة.

يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ). (سورة المائدة:1)

وسواء كانت هذه العقود مبرمة بين المسلم والمسلم، أو المسلم وغير المسلم.

وفاء الولاة والأمراء بالعهود والمواثيق

وقد دلَّت على ذلك عمومات النصوص، وأكَّد الرسول صلى الله عليه وسلم على احترام الأحلاف المعقودة في الجاهلية.

في سنن الترمذي ومسند احمد بإسناد حسن أنه قال صلى الله عليه وسلم مؤكِّدًا على ضرورة الوفاء بأحلاف الجاهلية: (أَوفوا بحِلفِ الجاهليةِ، فإنَّ الإسلامَ لم يَزِدْه إلا شِدَّةً، ولا تُحدِثوا حلفًا في الإسلامِ). (صحيح الجامع:2553)

وظلَّ تاريخ الإسلام منذ فجر عهده، وعلى مرِّ مراحله التاريخية، صفحة بيضاء نقية، لم يدنَّس بخيانة، ولا غدر، ولا نقض عهد، بدون وجود ناقض من العدو.

قال النووي: واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب وكيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل.

الوفاء بالعقد

قال ﺗﻌﺎﻟﻰ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ). (سورة المائدة:1)

ﻗﺎﻝ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﺭﺣﻤﻪ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﺟﻤﺎﻉ اﻟﻮﻓﺎء ﺑﺎﻟﻨﺬﺭ ﻭﺑﺎﻟﻌﻬﺪ، ﻛﺎﻥ ﺑﻴﻤﻴﻦ ﺃﻭ غيرها.

ﻭﻫﺬا ﻣﻦ ﺳﻌﺔ ﻟﺴﺎﻥ اﻟﻌﺮﺏ اﻟﺬﻱ ﺧﻮﻃﺒﺖ ﺑﻪ، ﻭﻇﺎﻫﺮﻩ ﻋﺎﻡ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻋﻘﺪ، ﻭﻳﺸﺒﻪ – ﻭاﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺃﻋﻠﻢ – ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺃﺭاﺩ اﻟﻠﻪ – ﻋﺰ ﻭﺟﻞ -، ﺃﻥ ﻳﻮﻓﻰ ﺑﻜﻞ ﻋﻘﺪ ﻛﺎﻥ ﺑﻴﻤﻴﻦ ﺃﻭ ﻏﻴﺮ ﻳﻤﻴﻦ.

ﻭﻛﻞ ﻋﻘﺪ ﻧﺬﺭ، ﺇﺫا ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻲ اﻟﻌﻘﺪ ﻟﻠﻪ ﻃﺎﻋﺔ، ﻭﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻓﻴﻤﺎ ﺃﻣﺮ ﺑﺎﻟﻮﻓﺎء ﻣﻨﻬﺎ ﻣﻌﺼﻴﺔ.

وباعتبار الموفَى له هناك: الوفاء لله، هل وفيت لله بعهده وعقده؟

قال تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ). (سورة يس:60)

وقال تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ (٧)). (سورة العاديات)

الوفاء لرسوله صلى الله عليه وسلم، فهل وفيت لرسول الله بحبه واتباعه والدفاع عن سنته وأصحابه وأحبابه؟

وفاء الرسول صلى الله عليه وسلم

إنَّ الوفاء بالعهد، وعدم نسيانه أو الإغضاء عن واجبه، خلق كريم.

ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بالمحل الأفضل والمقام الأسمى، والمكان الأشرف، فوفاؤه كان مضرب المثل، وحقَّ له ذلك، وهو سيد الأوفياء.

ويتجلى لنا وفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في صور كثيرة منها:

وفاء النبي بالعهد مع غير المسلمين

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفي بالعهود والمواثيق التي تكون بينه وبين أعداء الإسلام.

وقد جاء في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرسولي مسيلمة الكذاب حين قرأ كتاب مسيلمة: (ما تقولانِ أنتما). قالا: نقول كما قال. قال: (أمَا واللهِ لولا أنَّ الرُّسلَ لا تُقتَلُ لضربتُ أعناقَكُما). (صحيح أبي داود:2761)

وورد أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي رافع، وقد أرسلته إليه قريش، فأراد المقام عنده، وأنه لا يرجع إليهم فقال: (إنِّي لاَ أخيسُ بالعَهدِ ولاَ أحبسُ البردَ ولَكنِ ارجع فإن كانَ في نفسِكَ الَّذي في نفسِكَ الآنَ فارجع). (صحيح أبي داود:2758)

وقال بن القيم في زاد المعاد: ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه ردَّ إليهم أبا جندل للعهد الذي كان بينه وبينهم، أن يردَّ إليهم من جاءه منهم مسلمًا.

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل. قال: فأخذنا كفار قريش. قالوا: إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفنَّ إلى المدينة، ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر. فقال: (انْصَرِفَا، نَفِي لهمْ بعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عليهم). (صحيح مسلم:1787)

امثلة وفاء النبي بالعهد مع الكفار

إن رسول الله – سيد الأوفياء – صلى الله عليه وسلم، كان وفيًّا حتى مع الكفار، فحين رجع من الطائف حزيناً مهموماً بسبب إعراض أهلها عن دعوته، وما ألحقوه به من أذىً، لم يشأ أن يدخل مكة كما غادرها، إنما فضل أن يدخل في جوار بعض رجالها.

فقبل المطعم بن عدي أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في جواره، فجمع قبيلته ولبسوا دروعهم وأخذوا سلاحهم وأعلن المطعم أن محمداً في جواره، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم الحرم وطاف بالكعبة، وصلى ركعتين.

ثم هاجر وكون دولة في المدينة، وهزم المشركين في بدر ووقع في الأسر عدد لا بأس به من المشركين؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ له). (صحيح البخاري:4024)

فانظر إلى الوفاء حتى مع المشركين …

وهل تعرف أبا البختري بن هشام؟

إنه أحد الرجال القلائل من المشركين الذين سعوا في نقض صحيفة المقاطعة الظالمة، فعرف له الرسول جميله وحفظه له، فلما كان يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ ابْنِ أَسَدٍ فَلَا يَقْتُلْهُ).

فهل تتذكر مَنْ أحسنوا إليك في حياتك؟                                        

وفاء الرسول لخديجة بعد موتها

فمن وفائه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، في صحيح الأدب المفرد للبخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان يكرم صديقات زوجته خديجة رضي الله عنها بعد موتها.

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالشيء يقول: (اذهَبوا بهِ إلى فلانةَ، فإنَّها كانَت صديقةَ خديجةَ، اذهَبوا إلى بيتِ فلانةَ، فإنَّها كانَت تحبُّ خديجةَ). (صحيح الأدب المفرد:172)

روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما بي أن أكون أدركتها؛ وما ذاك إلا لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليذبح الشاة فيتتبع بها صدائق خديجة؛ فيهديها لهنَّ.

وفاء الصحابة

لقد وفى أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعهود والمواثيق، والتزموا بالمبايعات التي أخذها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

في كتاب العهود والمواثيق لناصر العمر قال: فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته في عدة مناسبات، وهذه هي العهود والمواثيق التي ذكرها الله في أكثر من آية.

حيث خصَّ بعضها بالذكر كبيعة الرضوان، وأخذ عليهم العهد في بيعتي العقبة، وبيعة الرضوان، وبايعهم على الإسلام.

وبايع النساء بيعة خاصة، كما بايع بعض صحابته على الجهاد، وبايع آخرين على السمع والطاعة، وبايع بعضهم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.

ومما يجدر التنبيه إليه هنا، ما ذكره سبحانه في سورة الأحزاب، مادحًا أصحاب تلك العهود والمواثيق ومثنيًا عليهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً). (سورة الأحزاب: 23)

نعم لقد وَفى صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهودهم، والتزموا مواثيقهم، ولم يكونوا كبني إسرائيل الذين أصبحت الخيانة والغدر من سماتهم، وأبرز سجاياهم وطباعهم.

لقد كان من وفاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أحدهم يسقط سوطه وهو راكب على دابته، فينزل ليأخذ سوطه ولا يطلب من أحد أن يناوله؛ لأنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يسأل الناس شيئًا أعطوه، أو منعوه.

هذه هي الطاعة، وهذا هو الوفاء، وبمثل هؤلاء تسعد البشرية وتصل إلى مدارج الرقي وسمو الأخلاق، لقد كان جيلًا قرآنيًّا فذًّا، لم تعرف البشرية جيلًا كذلك الجيل، ولا صفوة كتلك الصفوة.

قال تعالى: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ). (سورة الأنعام:90)

وقال سبحانه: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ). (سورة الزمر:18)

وفاء أبو بكر الصديق

وفاء أبو بكر الصديق بديون النبي ووعوده

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو قدْ جَاءَ مَالُ البَحْرَيْنِ لقَدْ أعْطَيْتُكَ هَكَذَا، وهَكَذَا. ثَلَاثًا)، فلم يقدم مال البحرين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما قدم على أبي بكر أمر منادياً فنادى من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو عدة فليأتني، قال جابر: فجئت أبا بكر فأخبرته أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو قدْ جَاءَ مَالُ البَحْرَيْنِ لقَدْ أعْطَيْتُكَ هَكَذَا، وهَكَذَا. ثَلَاثًا)، قال: فأعطاني.

قال جابر: فلقيت أبا بكر بعد ذلك فسألته فلم يعطني ثم أتيته فلم يعطني، ثم أتيته الثالثة فلم يعطني، فقلت له: قد أتيتك فلم تعطني ثم أتيتك فلم تعطني ثم أتيتك فلم تعطني، فإما أن تعطيني، وإما أن تبخل عني.

فقال: أقلت تبخل عني، وأي داء أدوأ من البخل؟ – قالها ثلاثًا – ما منعتك من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك. (صحيح البخاري:4383)

وفاء أبو بكر الصديق في إنفاذ جيش أسامة

قال بن كثير في البداية والنهاية: قام أبو بكر رضي الله عنه، بتنفيذ جيش أسامة بن زيد، الذي قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليسير إلى تخوم البلقاء من الشام.

فخرجوا إلى الجرف فخيموا به، وكان بينهم عمر بن الخطاب، ويقال: وأبو بكر الصديق، فاستثناه رسول الله منهم للصلاة، فلما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا هنالك، فلما مات عظم الخطب، واشتدَّ الحال.

ونجم النفاق بالمدينة، وارتدَّ من ارتدَّ من أحياء العرب حول المدينة، وامتنع آخرون من أداء الزكاة إلى الصديق، ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة، وكانت جواثا من البحرين أول قرية أقامت الجمعة بعد رجوع الناس إلى الحقِّ، وقد كانت ثقيف بالطائف ثبتوا على الإسلام، لم يفروا ولا ارتدوا.

والمقصود أنه لما وقعت هذه الأمور، أشار كثير من الناس على الصديق أن لا ينفذ جيش أسامة؛ لاحتياجه إليه فيما هو أهم؛ لأنَّ ما جهز بسببه، في حال السلامة، وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطاب، فامتنع الصديق من ذلك، وأبى أشد الإباء، إلا أن ينفذ جيش أسامة، وقال: والله لا أحلُّ عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أنَّ الطير تخطَّفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أنَّ الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزنَّ جيش أسامة.

والوفاء للناس.. فهل وفيت للناس فكم من الناس وعَدَ ثم أخلف، وعاهد ثم غدر. هل تتذكر إحسان والديك؟ إحسان معلمك؟ إحسان زوجتك؟ هل تتذكر إحسان من أحسن إليك من خلق الله؟

إن الوفيَّ يحفظ الجميل ولا ينساه ولو بعد عشرات السنين.

ثم أسألك أيها الحبيب: هل صفحت وعفوت عمن أساء إليك الآن لأنه قد أحسن إليك فيما مضى؟

آيات عن الوفاء بالعهد والوعد

إن العهد كان مسؤولا

منها قوله سبحانه: (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً). (سورة الإسراء:34)

قال الطبري في تفسير هذه الآية: وأوفوا بالعقد الذي تعاقدون الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام، وفيما بينكم أيضًا، والبيوع والأشربة والإجارات، وغير ذلك من العقود.

(إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) يقول: إن الله جلَّ ثناؤه سائلٌ ناقضَ العهد، عن نقضه إياه، يقول: فلا تنقضوا العهود الجائزة بينكم، وبين من عاهدتموه أيها الناس فتخفروه، وتغدروا بمن أعطيتموه ذلك. وإنما عنى بذلك أنَّ العهد كان مطلوبًا.

الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق

وقال عزَّ مِن قائل: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)). (سورة الرعد)

قال الشوكاني في فتح القدير: أي بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم، أوفيما بينهم وبين العباد.

(وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ): الذي وثقوه على أنفسهم، وأكَّدوه بالأيمان ونحوها، وهذا تعميم بعد التخصيص؛ لأنَّه يدخل تحت الميثاق كلُّ ما أوجبه العبد على نفسه، كالنذور ونحوها.

ويحتمل أن يكون الأمر بالعكس، فيكون من التخصيص بعد التعميم على أن يراد بالعهد جميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده، ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه.

ويراد بالميثاق: ما أخذه الله على عباده، حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذرِّ المذكور في قوله سبحانه: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ). (سورة الأعراف:172)

وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). (سورة الفتح:10)

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ). (سورة المائدة: 1)

قال السعدي: هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود، أي: بإكمالها، وإتمامها، وعدم نقضها ونقصها.

وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه، من التزام عبوديته، والقيام بها أتمَّ قيام، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئًا.

والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب، ببرهم وصلتهم، وعدم قطيعتهم.

والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر، واليسر والعسر، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات، كالبيع والإجارة، ونحوهما، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها.

بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ). (سورة الحجرات:10)

بالتناصر على الحقِّ، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع، فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه، فكلُّها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها.

أحاديث عن الوفاء بالعهد والوعد

روى أبو داود والترمذي عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية، وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون، وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر. فنظروا فإذا عمرو بن عبسة.

فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن كان بينَه وبينَ قومٍ عهدٌ، فلا يشُدَّ عُقدةً ولا يحُلَّها حتى ينقضيَ أمَدُها، أو يَنبِذَ إليهم على سواءٍ)، فرجع معاوية. (تخريج سنن أبي داود:2759)

ومعنى قوله (ينبذ إليهم على سواء) أي: يعلمهم أنَّه يريد أنَّ يغزوهم، وأنَّ الصلح الذي كان بينهم قد ارتفع، فيكون الفريقان في ذلك على السواء.

قال الخطابي في معالم السنن: فيه دليل على أنَّ العهد الذي يقع بين المسلمين وبين العدو، ليس بعقد لازم لا يجوز القتال قبل انقضاء مدته، ولكن لا يجوز أن يفعل ذلك إلا بعد الإعلام به والإنذار فيه.

روى بن ماجه وصححه الألباني كما في الترغيب وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلَّى الصبح، فهوفي ذمة الله، فلا تخفروا الله في عهده، فمن قتله، طلبه الله حتى يكبَّه في النار على وجهه).

أي في عهده وأمانه في الدنيا والآخرة، وهذا غير الأمان الذي ثبت بكلمة التوحيد، كما عند بن ماجه وصححه الألباني في الترغيب (فلا تخفروا الله في ذمته) قال في النهاية: خفرت الرجل: أجرته وحفظته. وأخفرت الرجل: إذا نقضت عهده وذمامه.

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ). (صحيح البخاري:34)

عدم الوفاء بالوعد

قال ابن عثيمين: وأما إخلاف الوعد فحرام يجب الوفاء بالوعد، سواء وعدته مالًا، أو وعدته إعانة تعينه في شيء، أو أي أمر من الأمور، إذا وعدت فيجب عليك أن تفي بالوعد.

وفي هذا ينبغي للإنسان أن يحدد المواعيد، ويضبطها فإذا قال لأحد إخوانه: أواعدك في المكان الفلاني. فليحدد الساعة الفلانية، حتى إذا تأخر الموعود، وانصرف الواعد يكون له عذر، حتى لا يربطه في المكان كثيرًا.

وقد اشتهر عند بعض السفهاء أنهم يقولون: أنا واعدك ولا أخلفك، وعدي إنجليزي. يظنون أنَّ الذين يوفون بالوعد هم الإنجليز، ولكن الوعد الذي يوفى به هو وعد المؤمن.

ولهذا ينبغي لك أن تقول إذا وعدت أحدًا وأردت أن تؤكد: إنه وعد مؤمن. حتى لا يخلفه؛ لأنَّه لا يخلف الوعد إلا المنافق.

لكل غادر لواء

روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جَمع اللَّهُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ يَومَ القِيامَةِ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غادِرٍ لِواءٌ، فقِيلَ: هذِه غَدْرَةُ فُلانِ بنِ فُلانٍ). (صحيح مسلم:1735)

قوله (لكل غادر لواء) قال النووي: معناه لكل غادر علامة يشهر بها في الناس؛ لأنَّ موضوع اللواء الشهرة مكان الرئيس علامة له، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر؛ لتشهيره بذلك.

وقال القرطبي: هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل؛ لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء؛ ليلوموا الغادر ويذموه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر؛ ليشتهر بصفته في القيامة فيذمه أهل الموقف.

روى أحمد والبزار وذكره الألباني في صحيح الجامع عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن خيار عباد الله الموفون المطيبون).

روى النسائي بإسناد حسنه الألباني عن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي ربيعة عن أبيه عن جده قال: استقرض مني النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألفًا، فجاءه مال فدفعه إلي، وقال: (بارَكَ اللهُ لكَ في أهلِكَ ومالِكَ، إنَّما جَزاءُ السلَفِ الحَمدُ والأداءُ).

فالوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والجور، وذلك أنَّ الوفاء صدق اللسان والفعل معًا، والغدر كذب بهما؛ لأنَّ فيه مع الكذب نقض العهد.

والوفاء يختصُّ بالإنسان، فمن فُقِد فيه فقد انسلخ من الإنسانية كالصدق، وقد جعل الله تعالى العهد من الإيمان، وصيره قوامًا لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون ولا يتمُّ تعاونهم إلا بمراعاة العهد والوفاء، ولولا ذلك لتنافرت القلوب، وارتفع التعايش.

ولذلك عظَّم الله تعالى أمره فقال تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). (سورة البقرة:40)

وقال تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ). (سورة النحل:91)

الصدق والوفاء بالعهد

الصدق في الوعد وفي العهد من الفضائل الخلقية التي يتحلى بها المؤمنون، والكذب في الوعد وفي العهد من الرذائل الخلقية التي يجتنبها المؤمنون.

ويشترك الوعد والعهد بأنَّ كلًّا منهما، إخبار بأمر جزم المخبر بأن يفعله، ويفترقان بأنَّ العهد يزيد على الوعد بالتوثيق الذي يقدمه صاحب العهد، من أيمان مؤكدة.

والمواعدة مشاركة في الوعد بين فريقين، والمعاهدة مشاركة في العهد بين فريقين، فيعد كلٌّ من الفريقين المتواعدين صاحبه بما سيفعل، ويعاهد كلٌّ من الفريقين المتعاهدين صاحبه بما سيفعل.

وقد وصف القرآن الذين يوفون بالعهد بأحسن الصفات، فقال تعالى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). (سورة البقرة:177)

وقال تعالى: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ). (سورة آل عمران:76)

ونقض الميثاق يؤدي إلى سوء السلوك والأخلاق، قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ). (سورة المائدة:13)

واستمرارًا لورود العهد والميثاق في مجال بناء الأمة على الأخلاق السامية؛ يأمر الله عباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بعدد من الوصايا التي تُكَوِّن جيلًا ذا خلق رفيع، ثم يختم تلك الوصايا الخالدة بقوله سبحانه: (وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (سورة الأنعام:152)

فالوفاء بالعهد، ضمانة لأداء تلك الأوامر، واجتناب ما ورد من نواهي، ومن ثمَّ يكون الانقياد والطاعة وحسن الخلق.

وإخلاف العهد نقض للعهد، ينحطُّ بصاحبه إلى أسوأ البشر أخلاقًا – وبخاصة إذا كان العهد مع الله – فإنَّ المتصف بتلك الصفة ينتقل من مجتمع الصادقين المتقين إلى تجمع المخادعين الكاذبين من المنافقين.

قال تعالى: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ). (سورة التوبة:77)

الوفاء عند الحكماء

ذكر بن قتيبة في عيون الاخبار قال الأحنف: لا صديق لملولٍ، ولا وفاء لكذوبٍ، ولا راحة لحسودٍ، ولا مروءة لبخيلٍ، ولا سؤدد لسيئ الخلق.

وفي الآداب الشرعية لابن مفلح: عن الأصمعي قال: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوُّقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه.

وقال ابن مفلح: كان يقال: كما يُتوخَّى للوديعة، أهل الأمانة والثقة، كذلك ينبغي أن يتوخَّى بالمعروف، أهل الوفاء والشكر.

وفي آداب الصحبة للسلفي: قال الحريري: تعامل القرن الأول فيما بينهم بالدين زمانًا طويلًا حتى رقَّ الدين، ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء، ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة والرهبة.

وفي آداب العشرة الغزي قال بعض الحكماء: من لم يفِ للإخوان، كان مغموز النسب.

وقال ابن حزم في طوق الحمامة: إنَّ من حميد الغرائز وكريم الشيم وفاضل الأخلاق الوفاء؛ وإنَّه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات، وأول مراتب الوفاء أن يفي الإنسان لمن يفي له، وهذا فرض لازم وحق واجب، لا يحول عنه إلا خبيث المحتد، لا خلاق له ولا خير عنده.

وأيضاً في الأخلاق والسير قال: الوفاء مركب من العدل، والجود، والنجدة؛ لأنَّ الوفي رأى من الجور أن لا يقارض من وثق به، أو من أحسن إليه؛ فعدل في ذلك، ورأى أن يسمح بعاجل يقتضيه له عدم الوفاء من الحظ؛ فجاد في ذلك، ورأى أن يتجلَّد لما يتوقَّع من عاقبة الوفاء؛ فشجع في ذلك.

في الامثال لأبي عبيد: عن عوف بن النعمان الشيباني أنه قال في الجاهلية الجهلاء: لأن أموت عطشًا، أحبُّ إليَّ من أكون مخلاف الموعدة.

وفي الامثال لأبي عبيد: عن عوف الكلبي أنه قال: آفة المروءة خلف الموعد.

وأيضاً قال الحارث بن عمرو بن حجر الكندي: أنجز حرٌّ ما وعد.

وقال بن عبد ربه في العقد الفريد: وقالت الحكماء: لا شيء أضيع من مودة من لا وفاء له، واصطناع من لا شكر عنده، والكريم يودُّ الكريم عن لُقْية واحدة، واللئيم لا يصل أحدًا إلا عن رغبة أو رهبة.

ذكر الزمخشري في ربيع الابرار قال: وأوصت أعرابية ابنًا لها، فقالت: يا بني، اعلم أنَّه من اعتقد الوفاء والسخاء، فقد استجاد الحلة بربطتها وسربالها، وإياك والنمائم؛ فإنها تنبت السخائم، وتفرق بين المحبين، وتحسي أهلها الأمرين.

قصص عن الوفاء

ذكر الغزالي في الإحياء قال: لما حضرتْ عبد الله بن عمر الوفاةُ، قال: إنه كان خطب إليَّ ابنتي رجل من قريش، وقد كان مني إليه شبه الوعد، فوالله لا ألقى اللهَ بثلث النفاق، أُشْهِدُكم أني قد زوجته ابنتي.

قصة عن الوفاء بالعهد (الوالي)

في المستطرف: حُكِيَ أن الخليفة المأمون لما وَلَّى عبد الله بن طاهر بن الحسين مصر والشام وأطلق حكمه، دخل على المأمون بعض إخوانه يومًا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب، وهواه مع العلويين، وكذلك كان أبوه قبله فحصل عند المأمون شيء من كلام أخيه من جهة عبد الله بن طاهر، فتشوَّش فكره، وضاق صدره.

فاستحضر شخصًا وجعله في زيِّ الزهَّاد والنسَّاك الغزاة، ودسَّه إلى عبد الله بن طاهر، وقال له: امضِ إلى مصر، وخالط أهلها، وداخل كبراءها، واستَمِلْهُمْ إلى القاسم بن محمد العلوي، واذكر مناقبه.

ثم بعد ذلك اجتمع ببعض بطانة عبد الله بن طاهر، ثم اجتمع بعبد الله بن طاهر بعد ذلك، وادْعُهُ إلى القاسم بن محمد العلوي، واكشف باطنه، وابحث عن دفين نيَّته، وائتني بما تسمع.

ففعل ذلك الرجل ما أمره به المأمون، وتوجَّه إلى مصر ودعا جماعة من أهلها، ثم كتب ورقة لطيفة ودفعها إلى عبد الله بن طاهر وقت ركوبه.

فلمَّا نزل من الركوب وجلس في مجلسه خرج الحاجب إليه، وأدخله على عبد الله بن طاهر وهو جالس وحده، فقال له: لقد فهمت ما قصدت، فهات ما عندك. فقال: ولي الأمان؟ قال: نعم، فأظهر له ما أراده، ودعاه إلى القاسم بن محمد، فقال له عبد الله: أَوَتنصفني فيما أقوله لك؟ فقال: نعم. قال: فهل يجب شكر الناس بعضهم لبعض عند الإحسان والمنَّة؟ فقال: نعم.

قال: فيجب عليَّ وأنا في هذه الحالة التي تراها من الحكم والنعمة والولاية ولي خاتم في المشرق وخاتم في المغرب، وأمري فيما بينهما مطاع، وقولي مقبول، ثم إني ألتفت يمينًا وشمالاً فأرى نعمة هذا الرجل غامرة وإحسانه فائضًا عليَّ، أفتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة، وتقول: اغدر وجانب الوفاء، والله لو دعوتني إلى الجنة عيانًا لما غدرت، ولما نكثت بيعته وتركت الوفاء له.

فسكت الرجل، فقال له عبد الله: والله ما أخاف إلاَّ على نفسك، فارحل من هذا البلد. فلما يئس الرجل منه وكشف باطنه وسمع كلامه رجع إلى المأمون، فأخبره بصورة الحال، فسَرَّه ذلك، وزاد في إحسانه إليه، وضاعف إنعامه عليه.

قصة عن الوفاء بالعهد (الخليفة)

ذكر الابشيهي في المستطرف: قصة أخرى يحكيها مالك بن عمارة اللخمي، قال: كنت جالسًا في ظل الكعبة أيام الموسم عند عبد الملك بن مروان، وقبيصة بن ذؤيب، وعروة ابن الزبير، وكنا نخوض في الفقه مرة، وفي المذاكرة مرة، وفي أشعار العرب، وأمثال الناس مرة.

فكنت لا أجد عند أحد ما أجده عند عبد الملك بن مروان من الاتساع في المعرفة، والتصرف في فنون العلم، وحسن استماعه إذا حدث، وحلاوة لفظه إذا حدث، فخلوت معه ليلة فقلت له: والله إني لمسرور بك لما شاهدته من كثرة تصرفك، وحسن حديثك، وإقبالك على جليسك.

فقال: إن تعش قليلًا فسترى العيون طامحة إليَّ، والأعناق نحوي متطاولة، فإذا صار الأمر إلي فلعلك أن تنقل إليَّ ركابك فلأملأنَّ يديك.

فلما أفضت إليه الخلافة، توجهت إليه، فوافيته يوم الجمعة وهو يخطب على المنبر، فلما رآني أعرض عني، فقلت: لعله لم يعرفني، أو عرفني وأظهر لي نكره فلما قضيت الصلاة، ودخل بيته، لم ألبث أن خرج الحاجب فقال: أين مالك بن عمارة؟

فقمت فأخذ بيدي وأدخلني عليه، فمد إليَّ يده، وقال: إنك تراءيت لي في موضع لا يجوز فيه إلا ما رأيت، فأمَّا الآن فمرحبًا وأهلًا، كيف كنت بعدي؟ فأخبرته، فقال: أتذكر ما كنت قلت لك؟ قلت: نعم.

فقال: والله ما هو بميراث وعيناه، ولا أثر رويناه، ولكني أخبرك بخصال مني سميت بها نفسي إلى الموضع الذي ترى، ما خنت ذا ودٍّ قط، ولا شمتُّ بمصيبة عدوٍّ قط، ولا أعرضت عن محدث حتى ينتهي حديثه، ولا قصدت كبيرة من محارم الله تعالى متلذذًا بها، فكنت أؤمِّل بهذه أن يرفع الله تعالى منزلتي؛ وقد فعل، ثم دعا بغلام، فقال له: يا غلام بوِّئه منزلًا في الدار.

فأخذ الغلام بيدي وأفرد لي منزلًا حسنًا، فكنت في ألذِّ حال، وأنعم بال، وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه، ثم أدخل عليه في وقت عشائه وغدائه؛ فيرفع منزلتي ويقبل عليَّ ويحادثني، ويسألني مرة عن العراق ومرة عن الحجاز.

حتى مضت لي عشرون ليلة، فتغديت يومًا عنده فلمَّا تفرَّق الناس، نهضت قائمًا، فقال: على رِسْلك. فقعدت، فقال: أيُّ الأمرين أحبُّ إليك: المقام عندنا مع النصفة لك في المعاشرة، أو الرجوع إلى أهلك ولك الكرامة؟

فقلت: يا أمير المؤمنين، فارقت أهلي، وولدي على أني أزور أمير المؤمنين وأعود إليهم، فإن أمرني أمير المؤمنين، اخترت رؤيته على الأهل والولد.

فقال: لا، بل أرى لك الرجوع إليهم، والخيار لك بعد في زيارتنا، وقد أمرنا لك بعشرين ألف دينار، وكسوناك، وحملناك، أتراني قد ملأت يديك؟! فلا خير فيمن ينسى إذا وعد وعدًا، وزرنا إذا شئت، صحبتك السلامة.

قصة عن الوفاء بالعهد (الملك)

في المستطرف قال: يُذْكَرُ أن النعمان كان قد جعل له يومين: يوم بؤس مَنْ صادفه فيه قتله وأرداه، ويوم نعيم من لقيه فيه أحسن إليه وأغناه. وكان هذا الطائي قد رماه حادث دهره بسهام فاقته وفقره، فأخرجته الفاقة من محلِّ استقراره ليرتاد شيئًا لصبيته وصغاره، فبينما هو كذلك إذ صادفه النعمان في يوم بؤسه، فلمَّا رآه الطائي علم أنه مقتول، وأن دمه مطلول.

فقال: حيَّا الله الملك، إن لي صبية صغارًا وأهلاً جياعًا وقد أرقتُ ماء وجهي في حصول شيء من البلغة لهم، وقد أقدمني سوء الحظِّ على المَلِكِ في هذا اليوم العبوس، وقد قربت من مقرِّ الصبية والأهل، وهم على شفا تلف من الطوى، ولن يتفاوت الحال في قتلي بين أول النهار وآخره فإن رأى الملك أن يأذن لي في أن أُوَصِّل إليهم هذا القوت وأوصي بهم أهل المروءة من الحيِّ لئلاَّ يهلكوا ضياعًا، ثم أعود إلى الملك وأسلِّم نفسي لنفاذ أمره.

فلمَّا سمع النعمان صورة مقاله، وفهم حقيقة حاله، ورأى تلهُّفه على ضياع أطفاله، رقَّ له ورثى لحاله، غير أنه قال له: لا آذن لك حتى يَضْمَنَكَ رجل معنا، فإن لم ترجع قتلناه، وكان شَرِيكُ بن علي بن شُرَحْبِيل نديم النعمان معه، فالتفت الطائي إلى شريك، وقال له:

يا شريك بن عدي ما من الموت انهزام من الأطفال ضعاف عدموا طعم الطعام
بين رجوع وانتظار وافتقارا وسقام يا أخا كلِّ كريم أنت من قوم كرام
يا أخا النعمان جُدْ لي بضمان والتزام ولك الله بأني راجع قبل الظلام

فقال شريك بن عدي: أصلح الله المَلِكَ، عليَّ ضمانه.

فمرَّ الطائي مسرعًا، وصار النعمان يقول لشريك: إن صدر النهار قد ولَّى ولم يرجع. وشريك يقول: ليس للمَلِكِ عليَّ سبيل حتى يأتي المساء.

فلما قرب المساء قال النعمان لشريك: قد جاء وقتك، قم فتأهب للقتل. فقال شريك: هذا شخص قد لاح مقبلاً، وأرجو أن يكون الطائي، فإن لم يكن فأَمْرُ الملك ممتثل. قال: فبينما هم كذلك وإذ بالطائي قد اشتد عَدْوُه في سيره مسرعًا، حتى وصل، فقال: خشيت أن ينقضي النهار قبل وصولي. ثم وقف قائمًا، وقال: أيها الملك، مُرْ بأمرك.

فأطرق النعمان، ثم رفع رأسه، وقال: والله ما رأيت أعجب منكما، أمَّا أنت يا طائي فما تركتَ لأحد في الوفاء مقامًا يقوم فيه، ولا ذكرًا يفتخر به، وأمَّا أنت يا شريك فما تركت لكريم سماحة يُذْكَرُ بها في الكرماء، فلا أكون أنا ألأم الثلاثة، ألا وأني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس، ونقضتُ عادتي كرامة لوفاء الطائي وكرم شريك.

فقال الطائي:

ولقد دعتني للخلاف عشيرتي فعددت قولهمو من الإضلال
إني امرؤ مني الوفاء سجية وفعال كل مهذَّب مفضال

فقال له النعمان: ما حملك على الوفاء وفيه إتلاف نفسك؟ فقال: ديني، فمن لا وفاء فيه لا دين له. فأحسن إليه النعمان، ووصله بما أغناه، وأعاده مكرمًا إلى أهله، وأناله ما تمنَّاه.

لما مات امرؤ القيس سار الحارث بن أبي شمر الغساني إلى السموأل بن عادياء، وطالبه بأدراع امرئ القيس، وكانت مائة درع، وبما له عنده، فلم يُعْطِه، فأخذ الحارث ابنًا للسموأل، فقال: إما أن تسلم الأدراع، وإما قتلتُ ابنك. فأبى السموأل أن يسلَّم إليه شيئًا، فقَتَلَ ابنه، فقال السموأل في ذلك:

وفيت بأدرع الكنديِّ إنِّي إذا ما ذمَّ أقوامٌ وفيت
وأوصى عاديا يومًا بأن لا تُهَدِّم يا سمول ما بنيت
بنى لي عاديا حصنًا حصينًا وماءً كلّما شئت استقيت

قصة قصيرة عن الوفاء

ذكر بن الجوزي في أخبار الظراف والمتماجنين: قال الشعبيُّ: قال عمرو بن معد يكرب: خرجتُ يومًا حتى انتهيت إلى حي، فإذا بفرسٍ مشدودةٍ، ورمحٍ مركوز، وإذا صاحبه في وهدةٍ يقضي حاجة له، فقلت له: خذ حذرك، فإني قاتلك. قال: ومن أنت؟ قلت: أنا ابن معد يكرب.

قال: يا أبا ثور، ما أنصفتني، أنت على ظهر فرسك وأنا في بئرٍ، فأعطني عهدًا أنّك لا تقتلني حتى أركب فرسي وآخذ حذري.

فأعطيته عهدًا أني لا أقتله حتى يركب فرسه ويأخذ حذره، فخرج من الموضع الذي كان فيه حتى احتبى بسيفه وجلس، فقلت له: ما هذا؟ قال: ما أنا براكبٍ فرسي ولا مقاتلك، فإن نكثت عهدًا فأنت أعلم. فتركته ومضيت، فهذا أحيل مَنْ رأيت.

قصة وفاء عروة بن مسعود الثقفي بالعهد

أسوق إليك قصة رجل مشرك أتى لمفاوضة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الحديبية، إنه عروة بن مسعود الثقفي، الذي أسلم فيما بعد – رضي الله عنه -، لقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرى وجوهًا وأرى أوباشًا من الناس خلقًا أن يفروا ويدَعوك، فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، نحن نفر عنه وندعه؟!! فقال عروة: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال عروة: أما والذي نفسي بيده لولا يدٌ كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.

هل قرأت هذه القصة أو سمعتها من قبل؟ وهل استوقفك هذا الوفاء من رجل مشرك؟ وهل تأملت وبحثت عن السبب الذي منعه من الرد على الصدِّيق رضي الله عنه؟

ثم أخي الحبيب هل تفي إذا وعدت؟

إذا قلتَ نعم، فأبشر بقول نبيك صلى الله عليه وسلم: (اضمَنوا لي سِتًّا من أنفسِكم أضمنُ لكم الجنَّةَ اصدُقوا إذا حدَّثتُم وأوفوا إذا وعدتم وأدُّوا إذا ائتُمِنتم واحفظوا فُروجَكم وغُضُّوا أبصارَكم وكُفُّوا أيديَكم). (رواه أحمد، والحاكم، وقال: حديث صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال: فيه إرسال)

وإن كانت الأخرى فهيا من الآن طهر نفسك من هذا الآفة، فإنها من النفاق العملي، وحاشاك أن تكون كذلك، وضع نصب عينيك ما رواه البخاري في صحيحه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ). (صحيح البخاري:6095)

ثم هل تفي إذا عاهدت؟

إن الوفاء بالعهود من أعظم أخلاق أهل الإيمان.

هل تعرف مدينة حمص؟ هل تعلم كيف دخل أهلها في دين الإسلام؟

لقد فتح المسلمون كثيرًا من بلاد الشام، ودعوا أهل حمص – وكانوا نصارى – إلى الإسلام، فأبوا وقبلوا الجزية، وفي مقابل دفعهم الجزية يلتزم المسلمون حمايتهم والدفاع عنهم.

ولكن الرومان أعادوا ترتيب صفوفهم لحرب المسلمين فطُلب من الجيش الإسلامي الذي كان في حمص أن يخرج منها للانضمام إلى بقية الجيش في غيرها من بلاد الشام.

لقد قام المسلمون برد الأموال التي سبق لهم قبضها من النصارى، فتعجب أهل حمص وسألوا المسلمين: لماذا رددتم لنا أموال الجزية؟

فأجابهم المسلمون بأنهم غير قادرين على حمايتهم، وهم إنما أخذوا هذه الأموال بشرط حماية هؤلاء النصارى، وطالما أنهم لا يستطيعون الوفاء بالشرط فيجب أن يردوا الأموال.

هنا استشعر أهل حمص عظمة هذا الدين، وكمال وسمو أخلاق أهله، فدخلوا في دين الله، وبقيت قوات المسلمين معهم تدفع عن أهل حمص أذى الرومان.

أرأيت ماذا يفعل الوفاء؟!!

امثال عن الوفاء

أوفى من فكيهة

في المحاسن والأضداد للجاحظ: يقال في المثل: أوفى من فكيهة: وهي امرأة من بني قيس بن ثعلبة، كان من وفائها أنَّ السليك بن سلكة، غزا بكر بن وائل، فلم يجد غفلة يلتمسها، فخرج جماعة من بكر، فوجدوا أثر قدم على الماء، فقالوا: إنَّ هذا الأثر قدم ورد الماء. فقصدوا له، فلمَّا وافى حملوا عليه فعدا حتى ولج قبة فكيهة فاستجار بها، فأدخلته تحت درعها، فانتزعوا خمارها، فنادت إخوتها، فجاءوا عشرة، فمنعوهم منها.

أوفى من أمِّ جميل

وفي المحاسن والأضداد للجاحظ: ويقال أوفى من أمِّ جميل: وهي من رهط ابن أبي بردة من دوس، وكان من وفائها أنَّ هشام بن الوليد ابن المغيرة المخزومي قتل رجلًا من الأزد، فبلغ ذلك قومه بالسراة، فوثبوا على ضرار بن الخطاب الفهري ليقتلوه، فعدا حتى دخل بيت أمِّ جميل وعاذ بها، فقامت في وجوههم، ودعت قومها فمنعوه لها.

وفي المستطرف: يقال: أوفى من السموأل بن عاديا.

وفي المحاسن والأضداد للجاحظ: ويقال: أوفى من الحارث بن عباد: وكان من وفائه أنه أسر عدي بن ربيعة ولم يعرفه، فقال له: دلَّني على عدي ابن ربيعة ولك الأمان، فقال: أنا آمن إن دللتك عليه؟ قال: نعم. قال: فأنا عدي بن ربيعة. فخلاه.

أجمل ما قيل في الوفاء من الشعر

قال الشاعر:

ذهب الوفاءُ ذهابَ أمسِ الذاهبِ فالنَّاسُ بين مخاتلٍ ومواربِ
يغشون بينهم المودةَ والصفا وقلوبُهم محشوةٌ بعقاربِ

وقال علي بن أبي طالب:

مات الوفاءُ فلا رفدٌ ولا طمع في النَّاسِ لم يبقَ إلا اليأسُ والجزعُ
فاصبرْ على ثقةٍ باللهِ وارضَ به فاللهُ أكرمُ مَن يُرجى ويُتَّبعُ

وقال علي بن مقرَّب:

لا تركننَّ إلى مَن لا وفاءَ له الذئبُ مِن طبعِه إن يقتدرْ يثبِ

وقال آخر:

عشْ ألفَ عامٍ للوفاءِ وقلَّما ساد امرؤٌ إلا بحفظِ وفائِه
لصلاحِ فاسدِه وشعبِ صدوعِه وبيانِ مشكلِه وكشفِ غطائِه

وقال آخر:

ما أهونَ الإنسانَ إنَّ وفاءَه إمَّا اتقاءُ أذًى، وإمَّا مغنمُ
عظمتْ على أخلاقِه أكلافه وهو المصيَّرُ في الحياةِ المرغمُ
نفض الترابُ الضعف في أعراقه وابنُ الترابِ الصاغرُ المستسلمُ

وقال آخر:

إنَّ الوفاءَ على الكريمِ فريضةٌ واللؤمُ مقرون بذي الإخلافِ
وترى الكريم لمن يعاشرُ منصفًا وترى اللئيمَ مجانبَ الإنصافِ

وقال آخر:

ذهب التكرُّم والوفاءُ مِن الورَى وتصرَّما إلَّا مِن الأشعارِ
وفشت خياناتُ الثقاتِ وغيرِهم حتى اتهمنا رؤيةَ الأبصارِ

وقال الرِّياشيّ:

إذا ذَهَب التكرُّم والوَفاءُ وباد رِجالُه وبَقِي الغُثَاءُ
وأَسْلَمني الزَّمانُ إلى رِجالٍ كأمْثالِ الذِّئابِ لها عُواءُ
صَديقٌ كلَّما استَغْنيت عنهم وأَعْداءٌ إذا جَهَدَ البَلاءُ
إذا ما جئتهم يَتدافَعوني كأنِّي أجربٌ آذاه داءُ
أقولُ ولا أُلاَم على مَقالٍ على الإخوانِ كُلِّهم العَفاءُ

وقال آخر:

إذا قلتَ في شيءٍ نَعمْ فأتمَّه فإنَّ نعم دينٌ على الحرِّ واجبُ
وإلَّا فقلْ لا تسترحْ وتُرِحْ بها لئلا يقولَ النَّاسُ إنَّك كاذبُ

وقال آخر:

لا كلَّف اللهُ نفسًا فوقَ طاقتِها ولا تجودُ يدٌ إلا بما تجدُ
فلا تعِدْ عدةً إلَّا وَفيت بها واحذرْ خلافَ مقالٍ للذي تعِدُ

نكران المعروف

إن نُكران المعروف دليلٌ واضحٌ على سوء أخلاق كلّ من يقوم به، فدائماً ما نقدّم لهم يد العون والمعروف فيقابلوا ذلك بنكران الجميل، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله.

فمن الأمور التي يجب المحافظة عليها عدم نُكران معروف لإنسان قدّم لنا الكثير، وفي هذا المقال سنقدم لكم شعراً جميلاً عن نكرانِ المعروف:

ومن يصنع المعروف في غير أهله يلاقي كما لاقى مجير أم عامر

والقصة أنّ جماعة ًمن العرب خرجت للصيد، فعرضت لهم ضبعٌ فطاردوها، وكانت العرب يسمون الضبع (أم عامر)، وكان الجو شديد الحر.

فدخلت الضبع خباء (بيت) أعرابي، فخرج الأعرابي فرآها مجهدة ً في ذلك الحر الشديد، ورأى أنها قد التجأت إلى خبائه مستجيرة ً به، فصاح بالقوم: ما شأنكم؟ قالوا: صيدنا وطريدتنا.

قال: إنها قد أصبحت في جواري، ولن تصلوا إليها ما ثبت قائم سيفي في يدي، فانصرف القوم. ونظر الأعرابي فرأى الضبع جائعة ً، فقام إلى شاته ِفحلبها، وقدم للضبع الماء واللبن فشربت حتى ارتدت لها عافيتها.

فلما أقبل الليل نام الأعرابي مرتاح البال بما صنع للضبع من الإحسان لكن أم عامر نظرت إليه فوجدته نائماً، فوثبت عليهِ، وبقرت بطنه، وشربت من دمهِ، وتركته وسارت.

وفي الصباح: أقبل ابن عم الأعرابي يطلبه، فوجده قتيلاً، فاقتفى أثر الضبع حتـى وجدها، فرماها بسهم فقتلها، وأنشد يقول:

ومنْ يصنع المعروفَ في غير أهلهِ يلاقي الذي لاقـَى مجيرُ أم ِّ عامرِ
أدام لها حين استجارت بقـربهِ طعاما ٌ وألبان اللقاح ِ الدرائـر ِ
وسمـَّـنها حتى إذا مـا تكاملـتْ فـَـرَتـْه ُ بأنياب ٍ لها وأظافـر ِ
فقلْ لذوي المعروف ِ هذا جزاء منْ بدا يصنعُ المعروفَ في غير شاكـرِ

شعر عن نكران المعروف لزهير بن أبي سلمى:

وَمَن يَكُ ذا فَضلٍ فَيَبخَل بِفَضلِهِ عَلى قَومِهِ يُستَغنَ عَنهُ وَيُذمَمِ
وَمَن يَجعَلِ المَعروفَ مِن دونِ عِرضِهِ يَفِرهُ وَمَن لا يَتَّقِ الشَتمَ يُشتَمِ
ومن لا يزد عن حوضه بنفسه يهدم ومن يخالق الناس يعلم
وَمَن هابَ أَسبابَ المَنِيَّةِ يَلقَها وَإن يرق أَسبابَ السَماءِ بِسُلَّمِ
وَمَن يَعصِ أَطرافَ الزُجاجِ ينلنهُ يُطيعُ العَوالي رُكِّبَت كُلَّ لَهذَمِ
وَمَن يوفِ لا يُذمَم وَمَن يُفضِ قَلبُهُ إِلى مُطمَئِنِّ البِرِّ لا يَتَجَمجَمِ
وَمَن يَغتَرِب يَحسِب عَدُوّاً صَديقَهُ وَمَن لا يُكَرِّم نَفسَهُ لا يُكَرَّمِ
وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ
وَمَن يزل حاملاً على الناسَ نَفسَهُ وَلا يُغنِها يَوماً مِنَ الدَهرِ يُسأَمِ

الآثار المترتبة على الالتزام بالعهد

الآثار المترتبة على الالتزام بالعهد والميثاق متنوعة ومتعددة، فهناك الآثار التي تخص الفرد وأخرى تعم الجماعة، بعضها في الحياة الدنيا، وأخرى يوم القيامة، فمن هذه الآثار:

  1. الإيمان: وردت آيات كثيرة تنفي الإيمان عن الناقضين لعهدهم، وتصفهم بالكفر، وفي المقابل وصف الله سبحانه وتعالى الموفين لعهدهم ومواثيقهم بالإيمان، قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). (سورة الحديد:8)
  2. التقوى: التقوى أثر من آثار الوفاء بعهد الله، وثمرة من ثمرات الالتزام بميثاقه، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). (سورة البقرة: 63)
  3. محبة الله: أثبت الله محبته للمتقين الموفين بعهدهم، المستقيمين على عهودهم ومواثيقهم حتى مع أعدائهم ما استقاموا هم على تلك العهود، قال تعالى: (فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ). (سورة التوبة:7)
  4. حصول الأمن في الدنيا وصيانة الدماء: لم تقتصر آثار الوفاء بالعهد والميثاق على المسلمين وحدهم، وإنما شمل عدل الله، الكفار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام، ولهم عهود مع المسلمين، فجاءت الآيات صريحة بوجوب الوفاء لهم وصيانة دمائهم.
  5. حصول الأجر العظيم: فقد وعد الله الموفين بعهدهم بجزاء عظيم، قال تعالى: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) (سورة الأحزاب)، وقال: (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). (سورة الفتح: 10)
  6. دخول الجنات: فقد ورد في أكثر من آية جزاء من وفَّى بعهده، والتزم بميثاقه، وهو الوعد بدخول الجنة، قال تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (سورة البقرة:40)، قال ابن جرير: وعهده إياهم أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة.

بيع الوفاء

في الفقه: بيع الوفاء: هو أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذه العين بما لك عليَّ من الدين، على أني أن قضيت الدين فهي لي. ذكره الجرجاني في التعريفات.

وذكر الزيلعي في تبيين الحقائق: حقيقة بيع الوفاء وهو عبارة عن رهن مقابل الدين، والرهن يجوز الانتفاع به بإذن مالكه، وقد أذن له في ذلك.

وفي كتاب درر الحكام لملا خسرو: الرهن يختلف عن بيع الوفاء؛ فكل منهما عقد مستقل، له أحكامه المستقلة؛ فغاية الرهن توثيقية فقط، أما بيع الوفاء فغايته توثيق الدين وانتفاع الدائن بالعقار، وهو باطل؛ لأنه شرط رهنًا ينتفع به زيادة على الدين فصار قرضا جر منفعة. (انظر الحاوي الكبير للماوردي)

وفي شرح القواعد الفقهية للزرقا: وقد أنكر جمهور العلماء بيع الوفاء على مر العصور، ولم يبيحوه لجريان العادة به، بل ردوه لمخالفته للشرع؛ فالعادة محكمة ما لم تخالف الشرع.

مشاركة:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *