خطبة انتصف رمضان

مقدمة خطبة انتصف رمضان

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لسان الصدق الذي بلغ عن الحق مراده إلى الخلق رسول المحبة بشير السلام.

وارض اللهم عن آل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه ولا منازع له في علو شأنه قال في كتابه: (مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه وخليله قال في حديثه الشريف لأصحابه: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله). قالوا: يا رسول الله ما منا إلا وماله أحب إليه من مال وارثه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر).

يقول الشاعر:

أما بعد، فاتقوا الله حق تقاته وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته وجناته واعلموا اخوتي الكرام أن رمضان قد انتصف مر نصفه وبقي النصف الآخر.

أدركنا ما مضى ولا يدري أحد منا هل يعيش للحظة أم سيفارق والله جل ذكره يقول: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب).

ويقول الشاعر:

انتصف رمضان

اخوتي الكرام انتصف رمضان والناس على أحوالهم فسعينا مختلف واختلاف السعي دليل على اختلاف الأفهام فالناس في رمضان فريق محب لدوام الشهر ويتمناه أن يدوم أبد الآبدين، وفريق لا يتمنى دوامه ويفرح إن قالوا انتهى اليوم رمضان.

وكل منا بصير بحال نفسه فمن رأى حسن الأحوال في البيوت وهدوء الأجواء على المستوى العام ويعلم قيمة هدوء الجو يتمنى أن تظل السنة كلها رمضان، ومن لا يفهم هذا ويستصعب حبس نفسه عن الطعام والشراب هذا يتمنى زوال رمضان من الآن.

لذلك إخوتي الكرام النصف الذي مضى ومر والنصف الذي تبقى كلاهما من العمر وصاحب العقل الذي يمتاز بحسن الفهم يعلم أن الماضي والباقي من العمر ويعلم أن عمره رأس ماله ومن كان له رأس مال فليحذر التفريط فيه.

والشاعر يقول:

لذلك ينبغي لنا جميعاً أن نجد وأن نجتهد وأن نضاعف من العبادة عسى الله تعالى إن أبقى لنا أعماراً يستعملنا وعساه إن عجل بنا يُعجل بنا ونحن على خير.
ومن عجل الله به وهو على خير فهذا كذلك استعمال له لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أحب الله عبداً استعمله). قالوا: وما استعماله يا رسول الله؟ قال: (يوفقه إلى عمل صالح ثم يقبضه عليه).

وعند ذلك تحسن عاقبته وخاتمته فاللهم إنا نسألك أن تحسن خواتيمنا وعواقبنا ياذا الجلال والاكرام.

بحر وشبكة وصياد

إخوتي الكرام، الدنيا بَحر والشهوات أمواجه وابن آدم المَصِيد والشيطان هو الصَياد والبحر عميق.

وللأمواج كاسر وكاسر الأمواج الصيام لأن الصيام ثورة على الشِبع الصيام ثورة على نزوات النفس الصيام مذكر بنعم الله تبارك وتعالى الصيام لجام لأهل التُقى الصيام جنة للمحاربين.

لذلك كاسر الشهوات وقامعها وقاهرها صيام الإنسان، فمن صام الصيام الصحيح لم يعد يخاف علو الأمواج ومن ثم يصبح في مأمن من أن يقع في شبك الصياد.

مثل ابن آدم في شبكة الشيطان مثل سمكة في شبكة صياد إذا ألقى الصياد الشبك وأصبح في الشبك سمك إن رأت السمكة في الشبكة مجالاً للخروج رجعت للخلف ثم دفعت بنفسها بقوة حتى تتغلب على المكان الضيق فتخرج فإن خرجت نجت من لهيب النار أما إن ظلت واقفة في مكانها مآلها أن تشوى بالنار.

أخي الكريم الإنسان هكذا، الشيطان ألقى شباكه من خلال نزواتنا وشهواتنا فمن يدخل في الشباك أمامه ثغرة في استطاعته أن يرجع للخلف فيستدرك حاله ثم يشد من عزمه وأزره ويندفع بقوة فإذا اندفع بقوة خرج وخروجه نجاة من النار.

الرجوع للخلف التأثر بالماضي فهذا يعينه على الندم والاندفاع للأمام بمضاعفة الطاقة في العبادة والتوبة فإن اندفع بقوة خرج وخروجه سلامته إما إن ظل حبيس الشباك فمآله النار والعياذ بالله.

والله قال في كتابه: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ).

النجاة من شباك الصياد

لذلك لا سلامة كسلامة من اتبع الكتاب والسنة ولا نجاة إلا بركوب هدي الحبيب النبي عليه الصلاة وأزكى السلام ولا فوز كفوز من زُحزح عن النار وأدخل الجنة.

فاللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العُلى أن تجعلنا من المزحزحين عن نارك إلى جناتك ونسألك بأسمائك الحسنى أن تجعلنا من عتقائك من النار في رمضان.

اخوتي الكرام، الأمر يحتاج إلى روية الأمر يحتاج إلى توبة الأمر يحتاج إلى تأني، قس بنفسك شهواتك وانظر هل كسرها الصيام؟ إن كان الصيام قد كسرها فأنت في مأمن أما إن لم يكسرها الصيام فالحذر الحذر لأن الخطر متوقع.

لذلك ينبغي أن نصوم صيام النبي عليه الصلاة وأزكى السلام يصوم البطن ويصوم الفرج ويصوم السمع ويصوم البصر ويصوم اللسان ويصوم القلب وتصوم الجوارح ومن ثم تصبح عبداً ربانياً.

فوائد الصيام الصحيح

بالصيام الصحيح تصفوا الروح وإذا صفت الروح انعكس صفاءها على البدن ومن ثم يتأثر الإنسان بالصفاء الروحي حال حياته في نهاره وحال موته في منامه.

الصفاء الروحي في النهار يعطي براحاً للبدن في التحرك وتحركاته كلها تحركات نورانية ترى اشعاعاً في جوارحه يتحرك في خدمة هذا وخدمة ذاك يتحرك لجمع الشمل ورأب الصدع يتحرك لتسكين الأوجاع واذهاب الألم فحركته حركة نفعية لأن الروح صفت.

وإذا ما ذهب للنوم كذلك صفاء الروح يعليه في مناماته فلا يرى كوابيس مزعجة ولا يرى احتراق بدنه في نار ولا يشعر إلا براحة النوم وعند ذلك ينعكس الأمر على الرؤى إذا ما من الله عليه بشئ يراه في منامه يريه جنته.

أما إن انتصرت الشهوة وضعف الكاسر وضعف القامع، التخمة ترهق البدن حال النهار تظهر على تقاسيم وجهه وحالة النوم يرى كوابيس مزعجة يرى من يخنقه يرى من يضربه إذا استيقظ استيقظ مرهقا.

لذلك في كتاب تهذيب التهذيب في ترجمة أبي الأبيض العنسي هو رجل من الصالحين ويوماً رأى فيما يرى النائم رؤى فلما استيقظ ذهب إلى أمير البلاد فقص عليه ما رأى وكان قد رأى في منامه أن القيامة قد قامت وأن الجنة قد هيئت ورأى أنه دخل الجنة وأكل فيها زبداً وعسلاً.

فقال: يا أمير المؤمنين رأيت فيما يرى النائم أني أدخلت الجنة وأكلت فيها زبداً وعسلاً. فقال الأمير: يا أبا الأبيض أما الزبد والعسل فعلي وأما الجنة فعلى الله. فجاءوا له بزبد وعسل فأكل وهو يأكل نادى منادي الجهاد يا خيل الله اركبي فخرج للغزو في موقعة الطوانة وفي آخر النهار رأوه في عداد الشهداء.

رؤية القلب

فكاسر الأمواج إذا ما غلب أثر وتأثيره ينعكس على بدن الصائم وعلى روحه على نهاره وعلى ليله، الكاسر إذا اشتد تيقظ القلب وإذا ما تيقظ أفاق وعند إفاقة القلب يرى صاحبه بقلبه ما لم يره صاحب العينين بعينيه.

ومن ثم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: إذا أفاق القلب واندمل الهوى رأت القلوب ما لم ترى الأبصار.

ورؤية القلب للأشياء خرق للعادة والخرق للعادة في الأمور الصالحة يقال له في حق سائري البشر كرامة وفي حق أصفياء البشر معجزة.

لذلك الخوارق تحتاج إلى خوارق في الأفعال فمن أراد الكرامة ليحوز الولاية فليري الله من نفسه القرب لأن الولي هو القريب لا ينكح المرأة إلا وليها ووليها أقرب الناس لها كذلك ولي الله أقرب الناس إلى الله.

من حكمة الصيام

ولا يكون القرب إلا بتفعيل كاسر الأمواج أي بالصيام الصحيح لذا الله تعالى جعل من حكمة الصيام التقوى فقال: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) مع سابقة الإيمان والله تعالى بين في كتابه: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)).

فبالإيمان والصيام الصحيح يصبح المرء ولياً لله وعندها إذا قال: يا رب. قال الله: لبيك يا عبدي.

وما أحوجنا اخوتي الكرام في هذه الفترة من ولي يقول: يا رب اكشف. فيقول الله: لبيك يا عبدي فيكشفها ويجليها.

فاتقوا الله إخوتي الكرام وفعلوا قامع الشهوات فعلوا كاسر الأمواج وابتعدوا عن شباك الشيطان فالشيطان الله تعالى بين مصيره والشيطان يحتاج إلى من يؤانسه في مصيره الأخير نسأل الله العافية والسلام.

إخوتي الكرام، الله تعالى أمرنا بالدعاء ووعدنا بالإجابة (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، والنبي عليه الصلاة وأزكى السلام بين أن الدعاء هو العبادة وبين كذلك النبي صلى الله عليه وسلم أوقات الإجابة وبين أن للصائم دعوة لا ترد.

ولكن مع هذا كله ترى الغافلين عن وعد النبي صلى الله عليه وسلم تراهم كثيرين، الإنسان عند الفطر من أخطاءه أنه يتلهى بالطعام والشراب وينسى وعد النبي له.

لو أن مسئولا من المسؤلين قال لي: اطلب وما تطلبه سأنفذه. سأكتب له كتباً كلها مطالب. غير أن النبي أنزل الله عليه فقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ) هذا وعد الله. وورد في السنة النبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لكل صائم دعوة لا ترد).

ومع هذا الوعد الكبير غير أننا نغفل عن الدعوة، لو أن لكل منا دعوة مستجابة كما في الحديث وحققت الصيام الصحيح عند ذلك سأفوز بالاستجابة.