تخطى إلى المحتوى

خطبة عن غزوة أحد

مشاركة:

خطبة عن غزوة أحد بعنوان (فضل الواحد الأحد فيما حدث للمسلمين يوم أحد) لأبي عرفات محمد نبيه علي ضيف الله الواعظ بالأزهر الشريف.

خطبة عن غزوة أحد
خطبة عن غزوة أحد

ما هي قصة غزوة أحد؟

في شهر شوال من العام الثالث من الهجرة وقعت غزوة أحد، حيث أرادت قريش أن تمسح عار الهزيمة التي منيت بها في بدر الكبرى، فرصدوا القافلة التي كانت سبب غزوة بدر كرأس مال لحرب يردوا بها كرامتهم ويستأصلوا المسلمين ويقضون على الإسلام.

جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه يتشاورون في البقاء داخل المدينة ويتركوا المشركين يدخلوا عليهم فيتمكنوا منهم وكان هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ووافقه ابن سلول، وكان لبعض الصحابة قول آخر وهو أن يلاقوهم خارج المدينة حتى يحفظوا النساء والذرية واستقرت المشورة على هذا.

فخرجوا من المدينة وكانوا ألفا وفي الطريق رجع ابن سلول وقد علاه كبره وقال: لم يأخذ محمد بمشورتنا ورجع معه أصحابه وكانوا ثلث الجيش وبدأوا في التخذيل.

وسرعان ما وصلوا إلى أُحد فقسم النبي صلى الله عليه وسلم الجيش وجعل على الرماة عبد الله بن جبير وأوصاه ألا يترك المكان تحت أي ظرف ولو أُبيد المسلمون.

فتفوق المسلمون في البداية فطمع الرماة في أسلاب القوم فتركوا أماكنهم وعصوا رسولهم فتبدل التفوق إلى انكسار وأصبحت ثغرة بين المسلمين استغلها خالد بن الوليد واشتد الأمر على المسلمين فقتل منهم نحوا من سبعين على رأسهم حمزة ومصعب وأُشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل.

ووقف أبو سفيان يرقص ويقول اعل هبل فتدارك المسلمون أنفسهم وأمرهم الله بمتابعة القوم فلحقوهم بحمراء الأسد وكمن كل فريق للآخر وكانت العاقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعادت قريش منهزمة.

ونزل في شأن أُحد من الآيات مانزل ومنه قوله تعالى:

(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ۖ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ ۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ۗ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٦٨)). (سورة آل عمران)

(الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤)). (سورة آل عمران)

من هم شهداء غزوة أحد؟

حمزة بن عبدالمطلب

حمزة بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، الإمام البطل الضرغام أسد الله أبو عمارة، وأبو يعلى القرشي الهاشمي المكي ثم المدني البدري الشهيد، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة.

قال ابن إسحاق: لما أسلم حمزة، علمت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.

قال أبو إسحاق: عن حارثة بن مضرب، عن علي: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ناد حمزة)، فقلت: من هو صاحب الجمل الأحمر؟ فقال حمزة: هو عتبة بن ربيعة. فبارز يومئذ حمزة عتبة فقتله.

وروى أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نساء الأنصار يبكين على هلكاهن، فقال: (لكن حمزة لا بواكي له). فجئن فبكين على حمزة عنده، إلى أن قال: (مروهن لا يبكين على هالك بعد اليوم).

وفي كتاب”المستدرك” للحاكم: عن جابر مرفوعا: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه، فقتله). قلت: سنده ضعيف.

الدغولي حدثنا أحمد بن سيار، حدثنا رافع بن أشرس، حدثنا خليد الصفار، عن إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب). هذا غريب.

عن أسامة بن زيد: عن نافع، عن ابن عمر، قال: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم أُحد، فسمع نساء بني عبد الأشهل يبكين على هلكاهن، فقال: (لكن حمزة لا بواكي له). فجئن نساء الأنصار، فبكين على حمزة عنده، فرقد، فاستيقظ وهن يبكين، فقال: (يا ويحهن! أهن هاهنا حتى الآن، مروهن فليرجعن، ولا يبكين على هالك بعد اليوم).

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، قال: خرجت أنا وعبيد الله بن عدي بن الخيار في زمن معاوية غازيين، فمررنا بحمص – وكان وحشي بها – فقال ابن عدي: هل لك أن نسأل وحشيا كيف قتل حمزة. فخرجنا نريده، فسألنا عنه، فقيل لنا: إنكما ستجدانه بفناء داره على طنفسة له، وهو رجل قد غلب عليه الخمر، فإن تجداه صاحيا، تجدا رجلا عربيا، فأتيناه فإذا نحن بشيخ كبير أسود مثل البغاث على طنفسة له، وهو صاح، فسلمنا عليه، فرفع رأسه إلى عبيد الله بن عدي، فقال: ابن لعدي والله ابن الخيار أنت؟ قال: نعم.

فقال: والله ما رأيتك منذ ناولتك أمك السعدية التي أرضعتك بذي طوى، وهي على بعيرها، فلمعت لي قدماك. قلنا: إنا أتينا لتحدثنا كيف قتلت حمزة. قال: سأحدثكما بما حدثت به رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت عبد جبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة بن عدي قتل يوم بدر، فقال لي: إن قتلت حمزة،  فأنت حر، وكنت صاحب حربة أرمي قلما أخطئ بها، فخرجت مع الناس، فلما التقوا، أخذت حربتي، وخرجت أنظر حمزة، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدا ما يليق شيئا، فوالله إني لأتهيأ له إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى الخزاعي، فلما رآه حمزة، قال: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور. ثم ضربه حمزة، فوالله لكأن ما أخطأ رأسه، ما رأيت شيئا قط كان أسرع من سقوط رأسه. فهززت حربتي، حتى إذا رضيت عنها، دفعتها عليه، فوقعت في ثنته حتى خرجت بين رجليه فوقع، فذهب لينوء فغلب، فتركته وإياها، حتى إذا مات قمت إليه، فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه، ولم يكن لي حاجة بغيره.

فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، هربت إلى الطائف. فلما خرج وفد الطائف ليسلموا، ضاقت علي الأرض بما رحبت، وقلت: ألحق بالشام، أو اليمن، أو بعض البلاد. فوالله إني لفي ذلك من همي، إذ قال رجل: والله إن يقتل محمد أحدا دخل في دينه. فخرجت حتى  قدمت المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: (وحشي)؟ قلت: نعم. قال: (اجلس، فحدثني كيف قتلت حمزة). فحدثته كما أحدثكما، فقال: (ويحك! غيب عني وجهك، فلا أرينك). فكنت أتنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان، حتى قبض.

فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة خرجت معهم بحربتي التي قتلت بها حمزة، فلما التقى الناس، نظرت إلى مسيلمة وفي يده السيف، فوالله ما أعرفه، وإذا رجل من الأنصار يريده من ناحية أخرى، فكلانا يتهيأ له، حتى إذا أمكنني، دفعت عليه حربتي، فوقعت فيه، وشد الأنصاري عليه، فضربه بالسيف، فربك أعلم أينا قتله، فإن أنا قتلته، فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتلت شر الناس.

وبه عن سليمان بن يسار: عن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رجلا يقول: قتله العبد الأسود يعني مسيلمة.

عن أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أنس، قال: لما كان يوم أحد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، على حمزة وقد جدع ومثل به، فقال: (لولا أن تجد صفية في نفسها، لتركته حتى يحشره الله من بطون السباع والطير). وكفن في نمرة إذا خمر رأسه، بدت رجلاه، وإذا خمرت رجلاه بدا رأسه، ولم يصل على أحد من الشهداء، وقال: أنا شهيد عليكم، وكان يجمع الثلاثة في قبر، والاثنين فيسأل: (أيهما أكثر قرآنا؟ فيقدمه في اللحد، وكفن الرجلين والثلاثة في ثوب).

عن ابن عون: عن عمير بن إسحاق، عن سعد بن أبي وقاص، قال: كان حمزة يقاتل يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيفين ويقول: أنا أسد الله. رواه يونس بن بكير، عن ابن عون، عن عمير، مرسلا، وزاد: فعثر فصرع مستلقيا، وانكشفت الدرع عن بطنه، فزرقه العبد الحبشي، فبقره.

عن عبد العزيز بن الماجشون: عن عبد الله بن الفضل، عن سليمان بن يسار،  عن جعفر بن عمرو الضمري، قال: خرجت مع ابن الخيار إلى الشام، فسألنا عن وحشي، فقيل: هو ذاك في ظل قصره كأنه حميت. فجئنا، فسلمنا ووقفنا يسيرا. وكان ابن الخيار معتجرا بعمامته ما يرى وحشي إلا عينيه ورجليه، فقال: يا وحشي، تعرفني؟ قال: لا والله، إلا أني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة يقال لها أم قتال بنت أبي العيص، فولدت غلاما بمكة، فاسترضعته، فحملته مع أمه، فناولتها إياه، لكأني أنظر إلى قدميك. قال: فكشف عبيد الله عن وجهه، ثم قال: ألا تخبرنا عن قتل حمزة. قال: نعم، إنه قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر، فقال لي مولاي جبير: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر. فلما خرج الناس عن عينين – وعينون، جبل تحت أُحد، بينه وبين أُحد واد – قال سباع: هل من مبارز؟ فقال حمزة: يا ابن مقطعة البظور، تحاد الله ورسوله؟ ثم شد عليه، فكان كأمس الذاهب. فكمنت لحمزة تحت صخرة حتى مر علي فرميته في ثنته حتى خرجت الحربة من وركه.

إلى أن قال: فكنت بالطائف، فبعثوا رسلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه لا يهيج الرسل. فخرجت معهم، فلما رآني، قال: (أنت وحشي؟ قلت: نعم. قال: (الذي قتل حمزة؟) قلت: نعم. قد كان الأمر الذي بلغك. قال: (ما تستطيع أن تغيب عني وجهك؟) قال: فرجعت.

فلما توفي وخرج مسيلمة قلت: لأخرجن إليه لعلي أقتله، فأكافي به حمزة. فخرجت مع الناس، وكان من أمرهم ما كان، فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق، ثائر رأسه، فأرميه بحربتي، فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، ووثب إليه رجل من الأنصار، فضربه بالسيف على هامته.

قال سليمان بن يسار: فسمعت ابن عمر يقول: قالت جارية على ظهر بيت أمير المؤمنين: قتله العبد الأسود.

قال موسى بن عقبة: ثم انتشر المسلمون يبتغون قتلاهم فلم يجدوا قتيلا إلا وقد مثلوا به، إلا حنظلة بن أبي عامر، وكان أبوه أبو عامر مع المشركين، فترك لأجله. وزعموا أن أباه وقف عليه قتيلا، فدفع صدره برجله ثم قال: دينان قد أصبتهما، قد تقدمت إليك في مصرعك هذا يا دنيس، ولعمر الله إن كنت لواصلا للرحم برا بالوالد.

وجاء بإسناد فيه ضعف عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حمزة قتيلا بكى، فلما رأى ما مثل به شهق.

قصة هند وكبد حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه  يوم أحد

أولا: من المعلوم بالتواتر أن حمزة بن عبد المطلب، سيد الشهداء رضي الله عنه: قد قُتل يوم أحد شهيدا، وقد مثّل به المشركون؛ لفرط غيظهم منه مما نكل بهم.

فروى البيهقي (6799)، والطبراني في “المعجم الكبير” (167) عن كعب بن مالك: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: (مَنْ رَأَى مَقْتَلَ حَمْزَةَ؟) فقال رجل أعزل: أنا رأيت مقتله، قال: (فَانْطَلِقْ فَأَرِنَاهُ)، فخرج حتى وقف على حمزة، فرآه قد شق بطنه، وقد مثل به، فقال: يا رسول الله قد مثل به والله، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينظر إليه، ثم وقف بين ظهري القتلى، فقال: (أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ، لُفُّوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ جَرِيحٌ يُجْرَحُ إِلَّا جَاءَ وَجُرْحُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ، وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ).

قال الهيثمي في المجمع (6/ 119): “رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح”.

ثانيا: ما يذكره كثير من أهل المغازي والسير من أن هند بنت عتبة رضي الله عنها تناولت كبده رضي الله عنه بعد مقتله فلاكتها، فلم تستسغها: لم يثبت فيه حديث صحيح، وإليك البيان:

أولا: روى الإمام أحمد (4414): حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا عطاء بن السائب، عن الشعبي، عن ابن مسعود، فذكر الحديث في غزوة أحد، وفيه: “… فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها، فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَأَكَلَتْ مِنْهُ شَيْئًا؟) قالوا: لا. قال: (مَا كَانَ اللهُ لِيُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ النَّارَ).

وهذا إسناد ضعيف، عطاء بن السائب كان قد اختلط، قال الحافظ في التقريب (ص 391): “صدوق اختلط” وسماع حماد – وهو ابن سلمة – منه كان قبل الاختلاط وبعده، ولم يتميز حديثه قبل الاختلاط عن حديثه بعده. انظر: “التهذيب” (7/207)

والشعبي لم يسمع من ابن مسعود رضي الله عنه، كما قال أبو حاتم والدارقطني. انظر: “التهذيب” (5/ 68)

فهذا إسناد ضعيف منقطع، وفي متنه ما يستنكر ؛ وهو قوله (أَأَكَلَتْ مِنْهُ شَيْئًا؟) قالوا: لا. قال: (مَا كَانَ اللهُ لِيُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ النَّارَ)، وقد أسلمت هند وحسن إسلامها، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فروى البخاري (3825)، ومسلم (1714) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: “جاءت هند بنت عتبة، قالت: يا رسول الله، ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء، أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك”.

ثانيا: قال ابن إسحاق رحمه الله: “قد وقفت هند بنت عتبة كما حدثني صالح بن كيسان والنسوة الآتون معها، يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يجدعن الآذان والآناف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنافهم خدماً وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطيها وحشياً، غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها”. انتهى من “سيرة ابن اسحاق” (ص 333)

وهذا إسناد مرسل لا يصح، فصالح بن كيسان من صغار التابعين، وجل روايته عن التابعين. انظر: “التهذيب” (4/ 399-400)

ثالثا: أما ما رواه الواقدي في “مغازيه” (1/ 286) عن وحشي بن حرب، أنه قال بعد قتله حمزة: “… فشققت بطنه فأخرجت كبده، فجئت بها إلى هند بنت عتبة، فقلت: ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك؟ قالت: سلبي! فقلت: هذه كبد حمزة، فمضغتها ثم لفظتها، فلا أدري لم تسغها أو قذرتها، فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه، ثم قالت: إذا جئت مكة فلك عشرة دنانير، ثم قالت: أرني مصرعه! فأريتها مصرعه، فقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه، وقطعت أذنيه، ثم جعلت مسكتين ومعضدين حتى قدمت بذلك مكة، وقدمت بكبده معها”.

فهذا باطل منكر، والواقدي لا يشتغل به، كذبه الشافعي، وأحمد، والنسائي وغيرهم، وقال إسحاق بن راهويه: هو عندي ممن يضع الحديث. “تهذيب التهذيب” (9 /326)

رابعا: روى البيهقي في “دلائل النبوة” (3/ 282) من طريق محمد بن عمرو بن خالد، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، فذكر الحديث في غزوة أحد، وفيه”… ووجدوا حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بقر بطنه، واحتملت كبده، حملها وحشي، وهو قتله وشق بطنه، فذهب بكبده إلى هند بنت عتبة في نذر نذرته حين قتل أباها يوم بدر”.

وهذا إسناد ضعيف مرسل، ابن لهيعة كان قد اختلط، ومحمد بن عمرو بن خالد ذكره ابن يونس في “تاريخه” (1/ 459) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا.

خامسا: قال ابن كثير رحمه الله: “ذكر موسى بن عقبة أن الذي بقر كبد حمزة، وحشي فحملها إلى هند فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها”. انتهى من”البداية والنهاية” (5/ 419) وهذا مرسل أيضا، موسى بن عقبة تابعي صغير.

والخلاصة: أن التمثيل بحمزة رضي الله عنه وشق بطنه بعد استشهاده ثابت، أما ما ورد من استخراج كبده وتناول هند بنت عتبة منها وعدم استساغتها إياها فلا يثبت فيه شيء، والله أعلم.

مصعب بن عمير

في العام الثاني عشر من البعثة النبوية جاءت وفود من قبيلتي الأوس والخزرج من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة سُميت ببيعة العقبة الأولى، وأرسل معهم النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين.

وكان نزول مصعب رضي الله عنه بالمدينة على أسعد بن زرارة رضي الله عنه، وكان مصعب رضي الله عنه يُسَمَّى بالمدينة المنورة: المقرئ، كما ذكر ذلك ابن هشام في السيرة النبوية، وابن كثير في البداية والنهاية، والبيهقي في دلائل النبوة.

قال ابن الأثير في كتابه”أُسد الغابة في معرفة الصحابة”: “كان مصعب بن عمير من فضلاء الصحابة وخيارهم، ومن السابقين إلى الإسلام، أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه، وكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً فبَصُر به عثمان بن طلحة يصلي، فأعلم أهله وأمه فأخذوه فحبسوه، فلم يزل محبوساً إلى أن هاجر إلى أرض الحبشة وعاد منها إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة بعد العقبة الأولى، ليُعَلم الناس القرآن ويصلي بهم”.

فمصعب بن عمير رضي الله عنه هو أول سفير في الإسلام.

نجاح مصعب رضي الله عنه في مهمته

كان مصعب رضي الله عنه يأتي الأنصار في دورهم ويدعوهم إلى الإسلام، فيُسْلِم الرجل والرجلان، وقد نجح مصعب رضي الله عنه نجاحاً كبيراً في نشر الإسلام في المدينة المنورة، وأسلم على يديه الكثير والكثير، منهم ثلاثة من أئمة الأنصار وسادتهم وأعلامهم، وكلهم من بني عبد الأشهل الأوسيين، وهم عبّاد بن بشر، وأسَيْد بن حضير، وسعد بن معاذ، وقد أسلم بإسلامهم غالب بني عبد الأشهل في يوم واحد، الرجال والنساء.

وقد ذكر ابن هشام وابن كثير والبيهقي وغيرهم قصة مصعب بن عمير مع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وإسلامهما، وفيها أسوة حسنة لكل داعية إلى الله عز وجل أن تكون دعوته خالصة لله عز وجل، وأن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة.

وفيها: أن أسعد بن زرارة خرج به يوما يريد دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، فدخلا في حائط (بستان) من حوائط بني ظفر، وجلسا على بئر يقال لها بئر مرق، واجتمع إليهما رجال من المسلمين – وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذ على الشرك -، فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا.

فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إنْ يجلس أكلمه، وجاء أسيد فوقف عليهما مُتَشَتِّمًا، وقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أوَتجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كُفَّ عنك ما تكره، فقال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس، فكلمه مصعب بالإسلام، وتلا عليه القرآن.

قال: فوالله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، وفي إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله؟ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين.

ففعل ذلك. ثم أخذ حربته، فأقبل إلى نادي قومه، فلما رأوه قالوا: نحلف بالله لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به. فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا، وأيماننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قالا: فو الله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة، ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون..”.

وظلَّ مصعب رضي الله عنه قرابة عام في يثرب (المدينة المنورة) يدعو الناس إلى الإسلام، ويعلمهم أمور دينهم، ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بما فتح الله عليه، ففرح الرسول صلى الله عليه وسلم بعودته، وبما فتح الله عليه، فرحاً عظيما، وأقام مصعب رضي الله عنه بمكة قليلا ثم عاد إلى المدينة المنورة قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إليها في السنة الثالثة عشرة من البعثة النبوية.

الحكمة النبوية في اختيار الدعاة والسفراء

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيماً، عليمًا بأصحابه، وقد ذكر علماء السِيَّر أسماء سفراء ورُسُل ودعاة النبي صلى الله عليه وسلم لبعض المدن وبعض الملوك والأمراء وهم كثير، وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهم قائماً على مواصفات يتحلون بها، من علم وفصاحة، وصبر وشجاعة، وحكمة وحُسْن مظهر.

فاختار صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرسله إلى المدينة المنورة، وكان رضي الله عنه من المهاجرين إلى الحبشة، وهجرة الحبشة لا شكَّ قد أكسبته خبرةً في التعامل مع الأغراب، والتعامل مع عادات وتقاليد مختلفة، فإن كان يستطيع أن يتعامل مع أهل الحبشة، وهم ليسوا عربًا أصلًا، ويدينون بدينٍ لا ينتشر في مكة وهو النصرانيَّة، فهو – من باب أولى – يستطيع أن يتعامل مع أهل يثرب، وهم من العرب.

ثم إن مصعب رضي الله عنه كان يَتَّصف بالحكمة والعقل، والهدوء والصبر، وسعة الصدر والحلم، وظهر ذلك في موقفه مع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وإسلامهما، وكان يحفظ كلَّ ما نزل من القرآن، ولم يُشْتَهر عنه ذلك العلم لأنَّه مات مُبَكِّرًا، فقد مات رضي الله عنه في غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَدِّم حفظة القرآن في كثيرٍ من الأمور.

واختار النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما وأرسلهما إلى اليمن، وهما من أفضل صحابته وفقهائهم، وبعثهما للقيام بمهمة تعليم الناس أمور دينهم.

وكذلك كان اختياره صلى الله عليه وسلم لدحية الكلبي وعبد الله بن حذافة وحاطِب بن أبي بَلْتَعَة رضي الله عنهم ليكونوا سفراء لبعض الملوك والأمراء، فاختار صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي رضي الله عنه، وأرسله إلى هرقل عظيم الروم.

يقول ابن حجر في كتابه الإصابة عن دحية: “كان يُضرب به المثل في حسن الصورة”. وكان دحية – مع حُسن مظهره – فارساً ماهراً، وعليما بالروم.

وأرسل عبد الله بن حذافة رضي الله عنه إلى كِسْرى عظيم الفرس، وكان له دراية بهم ولغتهم، وكان ابن حذافة مضرب الأمثال في الشجاعة ورباطة الجأش.

كما أرسل صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك مصر حاطب بن أبي بلتعة، وقد قال في وصفه ابن حجر: “كان أحد فرسان قريش وشعرائها في الجاهلية”، وكان له علم بالنصرانية، ومقدرة على المحاورة.

لقد كان مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل إسلامه أحسن فتيان مكة شباباً وعِطراً وجمالاً، ولما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وعَلِم باجتماعه في دار الأرقم بأصحابه، سارع إليه ليسمع منه آيات القرآن فكان له مع الإسلام موعداً.

وهو ممن هاجر الهجرتين الأولى إلى الحبشة والثانية إلى المدينة المنورة، وكان أول سفير في الإسلام، وأول من صلى الجمعة في المدينة، وقد شهد بدراً وأُحداً، وأكرمه الله عز وجل بالشهادة في غزوة أُحد.

وفي كتاب صفة الصفوة لابن الجوزي الكثير من مناقب وفضائل مصعب بن عمير رضي الله عنه، ومن ذلك: قال ابن شهاب: “وكان أول من جمع الجمعة بالمدينة بالمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

وعن البراء قال: “أول مَنْ قدِم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير”.

وعن عمر بن الخطاب قال: “نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلا وعليه اهاب كبش قد تنطق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نور الله قلبه لقد رأيته بين أبوين يغدوان بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون) “.

وعن محمد بن شرحبيل قال: “حمل مصعب اللواء يوم أحُد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب فأقبل ابن قميئة فضرب يده اليمنى فقطعها ومصعب يقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) (سورة آل عمران:144)،  وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه فضربها فقطعها، فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه”.

وفي مصعب بن عمير رضي الله وفي أصحابه قال الله عز وجل: (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا). (سورة الأحزاب:23)

عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري

غزوة أُحد من الغزوات الهامة الحافلة بالمواقف والدروس والعبر، وقد وقعت أحداثها في الخامس عشر من شهر شوَّال من السنة الثالثة من الهجرة النبوية، واستشهد فيها سبعون صحابيّاً، سطروا بدمائهم وأرواحهم صفحات مضيئة في بذل النفس والروح في سبيل الله، وقد نزل في هؤلاء الشهداء وأمثالهم من الشهداء إلى يوم القيامة قول الله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). (سورة آل عمران:169)

قال السعدي: “هذه الآيات الكريمة فيها فضل الشهداء وكرامتهم، وما منَّ الله عليهم به من فضله وإحسانه، وفي ضمنها تسلية الأحياء عن قتلاهم وتعزيتهم، وتنشيطهم للقتال في سبيل الله والتعرض للشهادة”.

وقال الشوكاني في “فتح القدير”: “وقد اختلف أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية من هم؟ فقيل: في شهداء أحد، وقيل: في شهداء بدر، وقيل: في شهداء بئر معونة، وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”.

وقال القرطبي: “وبالجملة، وإن كان يحتمل أن يكون النزول بسبب المجموع، فقد أخبر الله تعالى فيها عن الشهداء أنهم أحياء في الجنة يرزقون”.

ومن هؤلاء الشهداء في غزوة أحد صحابي، أظلته الملائكة في جنازته بعد استشهاده، ولم يتغير جسده بعد دفنه، وكلمه الله عز وجل بعد موته، إنه الصحابي الجليل: عبد الله بن حرام الأنصاري، والد جابر رضي الله عنهما وبه كان يُكَنَّى، وهو أحد النُقباء الذين اختارهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلةَ بيعة العقبة الثانية.

قال عنه الذهبي في”سِيَر أعلام النبلاء”: “الأنصاري السلمي، أبو جابر، أحد النقباء ليلة العقبة، شهد بدراً واستشهد يوم أحد”.

وقال ابن حجر في”الإصابة في تمييز الصحابة”: “عبد اللَّه بن عمرو بن حرام بن ثعلب بن حرام الأنصاريّ الخزرجيّ السّلمي، والد جابر بن عبد اللَّه الصّحابي المشهور، معدود في أهل العقبة وبدر، وكان من النقباء، واستُشْهِد بأحُد”.

ومنذ أن رجع عبد الله بن حرام رضي الله عنه من بيعة العقبة الثانية إلى المدينة المنورة وضع نفسَه وأهله وماله في خدمة الإسلام، وما أن شُرع الجهاد حتى كان في طليعة المجاهدين الذين يرجون ثواب الله والدار الآخرة، فشارك النبيَّ صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، وقُتِل يوم أحُد شهيداً، وهو الشهيد الذي تمنى أن يعود للدنيا ويقتل شهيداً مرة ثانية لما رأى من فضل ومنزلة الشهداء عند الله عز وجل.

وصية عبد الله بن حرام لابنه جابر

أوصى عبد الله بن عمرو بن حرام ولده جابر بوصية قبل غزوة أحد، فقد روى البخاري في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: “لما حضر أُحد دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لا أترك بعدي أعز عليَّ منك، غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن عليَّ دَيْناً، فاقض، واستوص بأخواتك خيرا، فأصبحنا، فكان أول قتيل”.

قال ابن حجر في فتح الباري: “وفي هذا الحديث من الفوائد: الإرشاد إلى بر الأولاد بالآباء خصوصا بعد الوفاة، وفيه الاستعانة على ذلك بإخبارهم بمكانتهم من القلب، وفيه قوة إيمان عبد الله رضي الله عنه المذكور لاستثنائه النبي صلى الله عليه وسلم ممن جعل ولده أعز عليه منهم، وفيه كرامته بوقوع الأمر على ما ظن، وفيه فضيلة لجابر رضي الله عنه لعمله بوصية أبيه بعد موته في قضاء دينه (فقد قضى دين أبيه بعد موته)”.

استشهاد عبد الله بن حرام وكرامة الله له في جنازته وقبره

عبد الله بن حرام رضي الله عنه من الصحابة الذين أبلوا بلاء حسناً يوم أُحد واستشهدوا فيها، وقد مثَّل المشركون بجثته بعد موته، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: “لما كان يوم أحد، جيء بأبي مُسجى – مغطى الجسد والرأس -، وقد مُثِّل به – قطع أطرفه أو أنفه أو أذنه ونحو ذلك -، فأردت أن أرفع الثوب، فنهاني قومي، ثم أردت أن أرفع الثوب، فنهاني قومي، فرفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمر به فرفع، فسمع صوت باكية أو صائحة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من هذه؟) فقالوا: بنت عمرو، أو أخت عمرو – شك من أحد الرواة، والصواب بنت عمرو وهي فاطمة بنت عمرو -، فقال صلى الله عليه وسلم: (ولِمَ تبكي؟) – لماذا وكيف تبكي؟ – (فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رُفِع)”. وفي رواية: (تبكين أو لا تبكين).

قال النووي: “(فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رُفِع) قال القاضي: يحتمل أن ذلك لتزاحمهم عليه لبشارته بفضل الله ورضاه عنه، وما أعد له من الكرامة عليه ازدحموا عليه إكراماً له وفرحاً به، أو أظلوه من حر الشمس لئلا يتغير ريحه أو جسمه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولِمَ تبكي) معناه سواء بكت عليه أم لا فما زالت الملائكة تظله، أي فقد حصل له من الكرامة هذا وغيره، فلا ينبغي البكاء على مثل هذا”.

وعن جابر رضي الله عنه قال: “كان أبي أول قتيل، ودفن معه آخر – عمرو بن الجموح – في قبر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر – بعد دفنه -، فإذا هو كيوم وضعته هُنَيَّة – لم يتغير -، غير أذنه”. رواه البخاري.

قال ابن حجر:”هنية: أي لم يتغير منه شيء إلا شيئاً يسيراً، وهي أذنه. ولا يعكر على ذلك ما رواه الطبراني بإسناد صحيح عن محمد بن المنكدر عن جابر: أن أباه قُتِل يوم أُحد ثم مثلوا به، فجدعوا أنفه وأذنيه.. لأنه محمول على أنهم قطعوا بعض أذنيه لا جميعهما”.

وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء وابن سعد في الطبقات عن جابر قال: “فدخل السيل قبرهما – أي قبر عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر وعمرو بن الجموح – لأنهما دُفِنا في قبر واحد – فحُفِر عنهما، وعبد الله قد أصابه جرح في وجهه، فيده على جرحه، فأميطت – أبعدت – يده عن جراحه، فانبعث – اندفع – الدم، فردت يده إلى مكانها فسكن – توقف – الدم. قال جابر: فرأيت أبي في حفرته كأنه نائم، وما تغير من حاله قليل ولا كثير، فقيل له: فرأيت أكفانه؟ قال: إنما كفن في نمرة خُمِّر – غطي – بها وجهه، وجعل على رجليه الحرمل (نبات)، فوجدنا النمرة كما هي، والحرمل على رجليه على هيئته، وبين ذلك ست وأربعون سنة، وقد جمع بينهما ابن عبد البر بتعدد القصة”.

تكليم الله عز وجل لعبد الله بن حرام بدون حجاب

عن جابر بن عبد الله بن حرام رضي الله عنه قال: “لمَّا قُتِلَ عبدُ الله بن حرام يوم أُحُد، لقيَني رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا جابر! ما لي أراك مُنكَسراً؟) قال: قلت: يا رسول اللّه! استُشْهِد أبي وترك عيالاً ودَيْناً، قال: (أفلا أبشِّرُك بما لقي اللهُ به أباك؟) قال: بلى يا رسول الله! قال: (ما كلَّم الله أحدًا قطُّ إلَّا من وراء حجاب، وَكَلَّم أباك كِفاحاً – مباشرة بعد موته ليس بينهما واسطة -، فقال: يا عبدي، تَمنَّ عليَّ – سَلْنِي – أُعْطِك، قال: يا ربّ! تُحييني فأُقْتل فيك ثانية، فقال الرَّبّ سبحانه: إنَّهُ سبق منِي أنهم إليها لا يُرجعون، قال: يا ربِّ! فأبلِغْ مَن ورائي، قال: فأنزل الله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)). (سورة آل عمران:169) رواه ابن حبان والترمذي وحسنه الألباني.

قال العيني: “وفيه: فضيلة عظيمة لم تسمع لغيره – أي لغير عبد الله بن حرام – من الشهداء في دار الدنيا”.

ولا يخفى أن تكليم الله عز وجل لعبد الله بن حرام رضي الله عنه مواجهة أو مباشرة ليس بينهما حجاب ولا رسول كان بعد موته واستشهاده وهو في عالم البرزخ، ولم يكن في الحياة الدنيا، وأحوال البرزخ والقبر من علم الغيب الذي لا يقال فيه بأي شيء إلا بنص شرعي، مثل تكليم الله للشهداء الذين قتلوا في سبيله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه عن الشهداء: (فاطَّلَع إليهم ربُّهُمُ اطِّلَاعة، فقال: هل تشْتَهون شيْئاً؟) رواه مسلم.

وما سوى ذلك والذي لم يرد فيه نص شرعي – من الكتاب والسنة – فالواجب التوقف عن القول فيه بأي قوْل. وقد قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ). (سورة الشورى:51): “هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله عز وجل، وهو أنه تعالى تارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل، وقوله: (أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) كما كلم موسى عليه السلام، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم، فحُجِب عنها، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله: (ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحاً)، وكان أبوه قد قُتِل يوم أُحد، ولكن هذا في عالم البرزخ، والآية إنما هي في دار الدنيا”.

وقال السيوطي في شرح سنن ابن ماجه: “فلا يتصور في الدنيا كلام الله تعالى مع عبده مواجهة، لأن أجساد الدنيا كثيفة لا يليق بها التجلي الذاتي، لأن الله تعالى لما تجلى للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا، وأما في الآخرة فالتجليات تحصل للأرواح أو للأجساد المثالية لأجساد الجنة”.

لقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم في غزوة أحد أروع الأمثلة في البطولة والتضحية، أثبتوا فيها صدق وقوة إيمانهم، وعظيم بذلهم في سبيل الله عز وجل، ويقينهم بما أعد الله تعالى للشهداء في الجنة، ومِن هؤلاء الكرام: عبد الله بن حرام والد جابر رضي الله عنهما، الذي خصَّه الله تعالى بفضيلة لم يدركها أحَدٌ غيره، وهي تكليمه له بعد موته واستشهاده في أحُد.

عمرو بن الجموح رضي الله عنه شهيد أقسم على الله فأبره

كان في الجيل الأول الفريد، من حملة هذا الدين، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من سمت به نفسه، وعلت به همته، فأبى إلا الجهاد في سبيل الله، على الرغم من إعاقته الظاهرة، وعرجه الشديد مع إعفاء الله جل وعلا له من هذه المهمة بنص الكتاب الكريم.

إنه الصحابي الجليل والسيد المقدام الجواد، الشهيد المبارك عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن سلمه الأنصاري الخزرجي الذي شهد العقبة، وأراد الخروج إلى بدر فمنعه أولاده، ولعله نال أجرها بصدق النية والعزم، وقد حضر أحدا واستشهد فيها، ودفن في قبر واحد هو وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله، وذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد كانا صهرين متحابين متصافيين وزوجته رضي الله عنها هند بنت عمرو عمة جابر بن عبد الله، وقد أسلمت قبله وأخفت إسلامها عنه، وله من البنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد وهم: خلاد، وأبو أيمن، ومعوذ، ومعاذ.

قال جرير بن حازم عن ابن اسحاق أن معاذ بن عمرو بن الجموح شارك ابنا عفراء في قتل أبي جهل – وقد كان لهم رضي الله عنهم حنكة وحيلة جميلة في قضية إسلامه تدل على حبهم لأبيهم ورغبتهم في إسلامه وحرصهم على دعوته، وتنفيره من وثنيته وجاهليته.

قصة إسلامه

لقد نجح سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه في مهمته في دعوة الناس إلى الإسلام في المدينة المنورة، قبل وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، وكان فيمن أسلم حينئذ أبناء عمرو بن الجموح رضي الله عنهم.

وكذلك أمهم هند بنت عمرو بن حرام، ولكنهم كانوا يخفون إسلامهم عن أبيهم، لما يعلمون من شدته وحدته، وتعلقه بوثنيته وجاهليته، وصنمه مناف، وذلك إلى جانب حرصهم الشديد على إسلامه ورغبتهم في إخراجه من الكفر إلى الإيمان، وبخاصة بعد ما آمن غالب أشراف المدينة.

ومن جانب آخر فقد كان عمرو في الوقت نفسه يخشى على أولاده الإسلام، والدخول في الدين الجديد، فنادى أمهم يوماً قائلاً: إحذري يا هند على أبنائك من هذا الرجل – يعني مصعب بن عمير رضي الله عنه – فقالت هل لك أن تسمع إلى ولدك معاذ؟ قال: أَوَ قد أسلم؟! قالت: بل اسمع، فلما دخل معاذ، قال له: أسمعني بعض ما يقول هذا الرجل، فقرأ عليه ابنه سورة الفاتحة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ….) حتى آخرها.

فقال: ما أحسن هذا الكلام وما أجمله، أَكلُّ كلامه مثل هذا؟ قالوا: نعم، فقال: ادعو لي الرجل يعني مصعباً رضي الله عنه فقرأ عليه من سورة يوسف، فلما لمسوا عنده ارتياحاً واستحساناً لما سمع، دعوه للإسلام، فقال: لست بفاعل حتى أستشير مناف فأنظر ماذا يقول. سبحان الله! وماذا عسى أن يقول صنم من خشب لا يسمع ولا ينطق، ولكنها طبائع الوثنية الجاهلية التي أشربوها في قلوبهم.

فقام إلى صنمه فلما سأله ما تقول فيما يقول هذا الرجل، فلم يجبه ولم يرد عليه، قال: أعلم أنك غضبت غضبا شديدا، لأن هذا الداعية الجديد ما جاء إلا ليسلبك مكانك ومنزلتك فينا، ولكني سأتركك لأيام حتى يهدأ غضبك.

عند ذلك أدرك أبناؤه أن الشك بدأ يسري في نفسه، فعمدوا إلى حيلة ينتزعون بها إيمانه بهذا الصنم إنتزاعاً حكيماً رشيدا.

وهاكم القصة كما جاءت عن يونس بن بكير عن ابن اسحاق قال: كان عمرو بن الجموح سيداً من سادات بني سلمة، وشريفاً من أشرافهم وكان قد اتخذ في داره صنماً من خشب يقال له: مناف، يعظمه ويطهره ويطيبه، فلما أسلم فتيان بني سلمة، وفيهم ابنه معاذ بن عمرو، ومعاذ بن جبل، فكانوا يدخلون بالليل على صنم عمرو فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة، وفيها أقذار الناس منكباً على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم، من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟ ثم يغدو فيلتمسه ويطلبه، فإذا وجده غسله وطيبه، ثم يقول: والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينَّه.

فإذا كانت الليلة الثانية صنعوا به كما كان في الليلة السابقة، فلما تكرر ذلك الأمر لعدة ليال جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال: إني والله لا أعلم من صنع بك ذلك، فإن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك، فلما أمسى، عدا عليه الفتية وأخذوا السيف من عنقه، ثم عمدوا إلى كلب ميت فقرنوه مع الصنم بحبل وألقوه في بئر من آبار بني سلمة التي تلقى فيها الأقذار والجيف، فلما أبصره على هذه الحالة، أبصر رشده، فكلمه بعض من أسلم من قومه، فأسلم وحسن إسلامه، ولما عرف من الله ما عرف، أنشد يعيب صنمه ذلك، وما أبصره من أمره، ويشكر الله الذي أنقذه من العمى والضلال:

أَربّ يبول الثعلبان برأسه لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب

ويقول في أخرى:

تالله لو كنت إلهاً لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن
فالحمد لله العلي ذي المِنَن الواهب الرزق وديّان الدِّيَن

ومن شعره رضي الله عنه الذي يصف فيه فرحه بدخوله في الإسلام، ويذكر فيه توبته ونجاته من النيران:

أتوب إلى الله مما مضى وأثني عليه بنعمائهِ
فسبحانه عدد الخاطئين وقطر السماء ومدرارهِ
هداني وقد كنت في ظلمة حليف مناة وأحجارهِ

رجل الرياسة والكرم

كان عمرو بن الجموح رضي الله عنه قبل إسلامه زعيما من زعماء يثرب، كريماً جواداً، بل من خيرة أجوادها، وهذا ما شهد له به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصفه بأنه سيد بني سلمة.

روى الشعبي أن نفراً من الأنصار من بني سلمة، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (من سيدكم؟) فقالوا: الجَدُّ بن قيس على بخل فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأي داء أدوى من البخل!! بل سيدكم الجَعدُ الأبيض عمرو بن الجموح)، وفي ذلك يقول شاعرهم:

وقال رسول الله والحق قوله لمن قال منا مَن تُسمون سيدا
فقالوا له جَدُّ بن قيس على التي نبخله فيها وإن كان أسودا
فتى ما تخطّى خطوة لدنية ولا مَدَّ في يوم إلى سوءة يدا
فسوَّد عمرو بن الجموح لجودهِ وحُقَّ لعمرو بالندى أن يُسَوَدا
إذا جاءه السؤال أذهب ماله وقال خذوه إنه عائد غدا

إنه نعم السيد ونعم الجواد، رجل سَوَّده رسول الله صلى لله عليه وسلم، وشهد له بذلك سيد الخلق الخبير بالرجال، من جاء بالشريعة السمحة ليتمم مكارم الأخلاق.

جهاده واستشهاده

قال أصحاب السير: لما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى بدر، عزم عمرو رضي الله عنه على الخروج معهم، فمنعه بنوه، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدة عرجه، فبقي بالمدينة على مضض وضيق وحرج شديد أن يرى نفسه مع القاعدين من النساء، والولدان والشيوخ.

فلما كان يوم أُحد وجحافل المشركين من قريش تحث الخطى إلى المدينة المنورة، لتثأر لقتلاها وكرامتها وكبريائها التي أذلت، بل ديست يوم بدر، وبينما كان رسول الله يشحذ الهمم، ويعد العدة ويجمع الصحابة لصد العدوان، ورد الغزاة، كان عمرو بن الجموح يدير حواراً ماتعاً وشديداً مع أبنائه الذين أرادوا حبسه عن الجهاد في هذا اليوم كما منعوه يوم بدر، وبالحجة نفسها، فقال لهم: لقد منعتموني الخروج إلى بدر، فلا تمنعوني الخروج إلى أحد، فقالوا: إن الله قد عذرك، ولا يصلح أمثالك للكر والفر.

فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بَنِيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمّا أنت فقد عذرك الله تعالى، فلا جهاد عليك).

ولكن لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة عارمة في نفس عمرو لخوض المعركة، ونيل الشهادة، قال: (والله لكأني أنظر إليك تمشي برجلك في الجنة وهي صحيحة) ثم التفت إلى بنيه وقال: (ما عليكم ألا تمنعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة). فلما سمع عمرو ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج رضي الله عنه فرحاً مسروراً مستقبل القبلة يقول: (اللهم لا تردني إلى أهلي خائبا).

وأخرج الإمام أحمد في مسنده: أن عمرو بن الجموح رضي الله عنه أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة إلى الجنة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم). فقتلوه يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم. فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وهو يتفقد القتلى، فأمر أن يجعلوا في قبر واحد. (الحديث رقم 299 \ ج 5)

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه زاد المعاد: في هذا الخبر دليل على أن من عذره الله في التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج، يجوز له الخروج إليه، وإن لم يجب عليه، كما خرج عمرو بن الجموح رضي الله عنه وهو أعرج.

وهذا مما يدخل في باب الأخذ بالعزيمة مع وجود الرخصة، ولله دره رضي الله عنه من صاحب عزيمة، ورب شجاعة، سارت به إلى جنة عرضها السماوات والأرض، كما فيه دليل على رغبته بالشهادة، وصدقه في طلبها، وقد أكرمه الله بذلك.

وهذا مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من طلب الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، ولو مات على فراشه)، فما بالك بمن سعى إليها سعيها، واقتحم معامعها، وخاض غمارها، حتى أثخنته الجراح، ونزفت منه الدماء، وتناثرت الأشلاء.

وبعد استشهاده رضي الله عنه، حضرت أرض المعركة زوجه هند بنت عمرو، وعمة جابر بن عبد الله، فحملته، وحملت أخاها عبد الله بن عمرو بن حرام تريد المدينة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وأمر برد القتلى إلى أرض المعركة، فدفنا في قبر واحد، وقال: (والذي نفسي بيده لقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته – يعني صحيحة سليمة -).

وكان رضي الله عنه ممن حمل على المشركين هو وابنه خلاد، حين كان ما كان من التفاف خالد بن الوليد وهو يومئذٍ على الشرك مع كتيبة من الفرسان من خلف جبل الرماة فانكشف جيش المسلمين، وتَضَعضَعت صفوفهم، فكان عمرو رضي الله عنه ممن ثبت حول رسول الله صلى الله عليه وسلم مدافعاً شديداً ثابتاً حتى استشهد هو وابنه رضي الله عنهما.

وهكذا استجاب الله دعاءه فلم يعد إلى أهله من أُحُدٍ خائباً ولا خاسراً، وإنما عاد وكما أراد واشتهى وتمنى سعيداً فرحاً بما آتاه الله من فضله، مصداقاً لقوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ). (سورة آل عمران)

ونختم الحديث بذكر كرامة عظيمة جميلة له رضي الله عنه، فعن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين ثم السلميين، كانا قد حفر السيل قبرهما، وكان قبرهما مما يلي السيل، وكان قبرهما واحدا، وهما ممن استشهد يوم أحد، فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما، فوجدا لم يتغيرا، كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت، فرجعت كما كانت، وكان بين أحد وبين يوم حُفِر عنهما ست وأربعون سنة.

رحم الله شهداء أمة الإسلام، وجعلهم مصابيح هدى، ومنائر هداية، على طريق العزة والكرامة للأمة.

ومن شهداء أحد: سعد بن الربيع ابن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، الأنصاري الخزرجي الحارثي البدري النقيب الشهيد الذي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، فعزم على أن يعطي عبد الرحمن شطر ماله، ويطلق إحدى زوجتيه، ليتزوج بها، فامتنع عبد الرحمن من ذلك، ودعا له، وكان أحد النقباء ليلة العقبة.

روى البيهقي عن ابن إسحاق: عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟) فقال رجل من الأنصار: أنا. فخرج يطوف في القتلى، حتى وجد سعدا جريحا مثبتا بآخر رمق، فقال: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات؟ قال: فإني في الأموات، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام وقل: إن سعدا يقول: جزاك الله عني خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك مني السلام، وقل لهم: إن سعدا يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف.

مشاركة:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *