تخطى إلى المحتوى

تفسير سورة القلم

مشاركة:

تفسير سورة القلم للشيخ محمد نبيه يشرح فيها تعريف سورة القلم ويبين ما هو سبب نزول سورة القلم ثم يبدأ في شرح معاني الكلمات والآيات.

تفسير سورة القلم
تفسير سورة القلم

سبب نزول سورة القلم

سورة القلم عدد آياتها اثنان وخمسون آية.

اختلف العلماء في نزولها: منهم من قال: نزلت بمكة المكرمة. ومنهم من قال: نزلت بمكة غير أن فيها ستة عشر آية من القرآن المدني.

لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة بدعوته، آمن به من آمن، وكفر به من كفر، ومن كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم كان منهم من حرص على إيذاءه، وكان يفرط في العداء ويتفنن في إلحاق الأذى بالنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام.

ومنهم من لم يتعرض له، كانوا أناس أهل نجدة ومروءة وشهامة، وسعوا في تفريج مسائل ألمت بالمسلمين.

كما كان من أمر الصحيفة الظالمة التي اجتمع عليها كفار أهل مكة، وسعوا في فض تلك المقاطعة.

من كانوا دائمي العداء مع إلحاق الأذى كانت لهم عناوين، منهم أبو جهل عمرو بن هشام، والوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل السهمي، وأُبي بن خلف، وأمية بن خلف، والنضر بن الحارث.

هؤلاء كانوا دائماً وأبداً يأتون النبي صلى الله عليه وسلم لإلحاق الأذى به وللمشقة عليه، وكانوا يأتونه بين الحين والآخر متعنتين، يسألونه ليعجزونه صلوات الله وسلامه عليه.

كانوا يسألونه تارة أن يتخذ من البساتين، أو يسأل الله أن ينزل على أهل مكة عذاباً، كانوا يستعجلونه بالعذاب، ولما كان ما كان من أمرهم أنزل الله هذه السورة.

تفسير سورة القلم

(ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1))

بدأت سورة القلم بأحد الحروف المقطعة وهو حرف (ن).

لكن العلماء الكرام قالوا: هذا الحرف من المتشابه. والمتشابه في القرآن ما لا يعلم معناه إلا الله تبارك وتعالى.

كما قال سبحانه وتعالى في سورة آل عمران:

﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.

فالمتشابه من القرآن هو ما خفي معناه، وما استأثر الله تعالى بعلمه.

لذلك لو قلبت كتب التفاسير كلها لما وجدت معنى لحرف النون في بدء سورة القلم متفق عليه، وإنما فريق يقول: نون هذا هو حوت عظيم، وفريق يقول: النون هي الدواهي التي يعبأ منها القلم.

لكن في الحقيقة أن حرف النون لا يعلم تأويله إلا الله سبحانه وتعالى، مع أن الحوت له ذكر في القرآن في قوله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا﴾.

وكذلك النون في سورة الأنبياء معناه الحوت على اعتبار قصة يونس عليه السلام.

يونس عليه السلام نبي من أنبياء الله تعالى، وكان في العراق في قرية يقال لها نينوى، وأرسله الله تبارك وتعالى في أمة قوامها مائة ألف، فلم يصبر يونس عليه السلام على دعوة قومه.

فلما نفذ صبره تركهم وذهب إلى بلد أخرى، وهو في الطريق إلى البلد الأخرى ركب سفينة فأصابت السفينة هِزة وهي في البحر.

فقالوا: حتى لا يموت من في السفينة كلهم نجري قرعة أو نستهم، والاستهام هو إجراء القرعة، فاستهموا فخرج السهم على يونس عليه السلام.

قالوا: يموت واحد ولا يموت الجمع، فألقوا يونس عليه السلام في الماء وكان في ظلام الليل، فلما ألقوه في الماء وقع في فم الحوت، فابتلعه الحوت.

فأصبح يونس عليه السلام في ظلمات، ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل.

وهو في بطن الحوت سبح الله رب العالمين اعترافاً بذنبه وخطأه وقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.

فاستجاب الله له، فأمر الحوت بأن يلفظه، فلفظه الحوت وهو مليم.

ثم أنبت الله عليه شجرة من يقطين، واليقطين هو القرع العسلي، والقرع العسلي إذا نبت له أوراق كبيرة وسيعة قد تغطي الإنسان بكامله.

هذه قصة يونس عليه السلام ذكرناها استشهاداً على أن من أسماء الحوت النون، لكن ليست النون مفردة، إنما نون ككلمة.

﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾.

فالحوت الذي هو النون تكتب النون ككلمة، ولم تذكر النون كحرف إلا في سورة القلم.

إذا من يقول إنها الحوت يقولها اجتهاداً لا قطعاً، لأن القطع إذا ثبت يثبت بآية محكمة، أو بحديث نبوي صحيح، وحيث إنه لم يثبت في هذا تبقى النون نوناً على أنها من أسرار هذا القرآن الكريم.

(وَالْقَلَمِ)

أول ما خلق الله القلم، وفي السنة النبوية من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أوَّلَ ما خلقَ اللَّهُ القَلمَ، فقالَ: اكتُب. فقالَ: ما أكتُبُ؟ قالَ: اكتُبِ القدَرَ ما كانَ وما هوَ كائنٌ إلى الأبدِ).

فأقسم الله بالقلم الذي كتبت به مقادير السماوات والأرض.

(وَمَا يَسْطُرُونَ)

يعني وما سطرته الملائكة في الكتاب، والملائكة تسطر في الكتاب كل ما كان من أمر الله تعالى وقد فرغ منه، وتسطر كل ما يقع من العباد من أفعال وأقوال.

قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إذا قرأت في كتاب الله أمراً أو نهياً أو استفهاماً أو نداءً أو قسماً فانتبه فإن من وراءها أمر عظيم.

وهنا أقسم الله بالقلم، وأقسم بالكتاب الذي يكتب فيه، والقسم هذا وراءه عظيم.

والعظيم الذي وراءه أن الله تعالى برأ ساحة النبي صلى الله عليه وسلم مما اتهمته به الكفار، وكفار مكة اتهموه صلى الله عليه وسلم بالجنون.

كان في مكة أناس ينازعون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويحاربونهم ويكيدون لهم ومن هؤلاء أولاد المغيرة الفاكه والوليد وغيرهم.

وكذلك معهم من بني مخزوم أبو جهل ومعهم كذلك أبو أمية وأناس كثر من أهل مكة، كانوا يحرصون على إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل تارة وبالقول أخرى، قالوا: هو مجنون.

فأقسم الله تعالى على براءة النبي صلى الله عليه وسلم من الجنون كما ستقرأ في الآيات التالية.

﴿مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)﴾

أي وأجرك يا محمد دائم غير منقطع.

إذا القسم الإفادة من ورائه براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما اتهمه به كفار مكة، وكذلك من وراءه أن النبي صلى الله عليه وسلم مأجور دائماً أجره لا ينقطع إلى يوم القيامة.

(وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4))

كذلك أفاد القسم أن أجمل الأخلاق وأكملها أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.

لذلك كانت تُسأل أمهات المؤمنين، وخاصة السيدة عائشة عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فكانت تقول: كان خلقه القرآن.

يعني كان يأتمر بأمر القرآن، وينتهي عما نهى القرآن، ويقف عند الحدود التي حدها الله في القرآن.

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6))

الإبصار العلم، والمفتون هنا يعني المجنون.

والمعنى: ستعلم يا محمد ويعلم أهل مكة أي منكما المجنون، برأ الله ساحته صلى الله عليه وسلم فبقي الجنون على أهل مكة.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7))

الجنون ضلال، فالضال مجنون جنه الشيطان، كما أضله ومناه وطمعه في الخلود في هذه الحياة.

فهو يقوم بما يقوم به المجنون، هو لا يؤمن إلا في دنياه فقط لا يؤمن بآخرة.

(فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8))

ثم بعد القسم تربية وتوجيه للنبي صلى الله عليه وسلم، من هؤلاء الذين اتهموه صلوات الله وسلامه عليه بالجنون.

منهم من ساومه، ساوموه على ترك ما هو عليه، قالوا: يا محمد اعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة، إن أردتنا أن نوحد الله فاعبد آلهتنا سنة نعبد إلهك سنة.

أرادوه أن يكفر كما كفروا حتى لا يكن هناك ثمة فرق بينهم، وهذا ديدن أهل الفساد دائماً، المفسد في الأرض لو رأى أحد المصلحين يظل به حتى يفسده، يظل به حتى يوقعه، فإذا أوقعه أصبحوا سواء، بعدها سيسحبه إلى الفساد.

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9))

﴿وَدُّوا﴾ تمنو.

﴿لَوْ تُدْهِنُ﴾ تنافق.

ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء، عند ذلك لا يصبح هناك فرق، هكذا شأن أهل الفساد دائماً.

أي مؤسسة فيها فساد وفيها أحد المصلحين، إن عاد عليهم بالأمر والنهي يظلوا به من وراءه يخططون حتى يوقعوه في الفساد، فإذا أوقعوه في الفساد أصبحوا سواء، وعند ذلك يحملوه على الفساد.

لذلك خذ من هذا عبر وتعلم من هذا دروساً في حياتك:

أهل مكة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم صالحاً غير مصلح أحبوه ومدحوه وقالوا: هو الصادق الأمين، ولكن لما زاد على الصلاح بالإصلاح حاربوه، فرق بين أن تكون صالحاً وبين أن تكون مصلحاً.

يوم أن كان النبي صلى الله عليه وسلم صالحاً كان موصوفاً عند العرب جميعاً معلوم بين كل الورى يقولون: صادق بني هاشم، أمين بني هاشم، حتى أنهم حكموه في أمورهم.

في قصة بناء الكعبة ورفع الحجر، قالوا: يحكم فينا أول داخل، فكان صلى الله عليه وسلم أول داخل عليهم، قالوا: جاء الصادق الأمين.

لكن لما خرج ليقول: أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. قالوا: يا محمد ما عهدناك هكذا.

فلما خرج عليهم بالإصلاح حاربوه، وهكذا شأن المصلحين في كل زمان ومكان، فالمصلح أعداءه أكثر من أحبابه.

لذلك إذا ما كنت مصلحاً ترى المفسدين من حواليك يريدونك لفسادهم، فإذا قبلت انتهى الأمر أعانوك على الفساد فأفسدت قبلهم، يخططون ويمكرون حتى يوقعوك.

﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10)﴾

الوليد بن المغيرة كان عنده أولاد كثر، وكان عنده مال عريض، ومع هذا كان حلافاً مهيناً.

والحلاف هو كثير الحلف، حلاف على وزن فعال وفعال صيغة مبالغة.

كلمة مهين بعد حلاف تفيد إفادات منها أن الحلاف ضعيف الشخصية، جبان النفس، لا يقوى على أخذ قرار، لو يقوى على أخذ قرار ما كان ليقع في الحلف.

وانظر هذا في حال الناس، ترى بيوتاً لا يسمع فيها الحلف أبداً، وترى الحركة بين الزوج والزوجة بالإشارة، وتسير الحياة بدون اعوجاج.

وترى في بيت آخر زوج يحلف بالطلاق ليل نهار على زوجته أن لا تفعلي كذا أو كذا، وفي النهاية تفعل زوجته ما تريد.

أيهما صاحب الشخصية الحلاف أم الممتنع عن الحلف؟

لذلك وفر على نفسك المجهود، لا تمتحن نفسك في قوامتك، وكن صاحب شخصية في أخذ القرار، وكن شجاع النفس.

ولا تكن حلافاً حتى لا تقع في المهانة، والمهانة ذُل، والرجل الذي يحلف كثيراً بنفسه يستشعر الذُل في كل مواقفه.

﴿هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)﴾

الهمز غيبة، ليل نهار ينتقص في خلق الله، والانتقاص من الناس همز، فالهمز اغتياب للناس.

كان هكذا الوليد بن المغيرة، كان لا يسلم من لسانه أحد.

وهذا من الكبير الذي يعذب الله عليه في عالم القبور، فالغيبة كبيرة.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾.

لو عرض عليك أحدهم ميتة لا تقوى على شمها فضلاً عن أكلها، فكيف بمن يجلس يلوك لحوم الناس؟

أصبحت اليوم فواكه الناس في مجالسهم أعراض المسلمين والمسلمات، هم يبتغون للبراء العنت.

في الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أُخْبِرُكُمْ بِخِيارِكُمْ؟ قالوا: بلى، قال: الذينَ إذا رَؤُوا ذكرَ اللهُ، أفلا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ قالوا: بلى، قال: المشاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، المُفْسِدُونَ بين الأَحِبَّةِ، الباغُونَ البِرَاءَ العَنَتَ).

البراء: جمع بريء.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا مَعْشَرَ مَن آمن بلسانِه ولم يَدْخُلِ الإيمانُ قلبَه، لا تغتابوا المسلمينَ، ولا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِم، فإنه مَن تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيه المسلمِ، تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه، ومَن تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه، يَفْضَحْهُ ولو في جوفِ بيتِه).

والنميمة أول موجب من موجبات عذاب القبر.

قال النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالقبرين: (إنَّهما يعذَّبانِ وما يعذَّبانِ في كبيرٍ أمَّا هذا فَكانَ لا يستنزِهُ من بولِهِ وأمَّا هذا فإنَّهُ كانَ يمشي بالنَّميمةِ).

النمام مثل العقربة، تلدغ من أي اتجاه، مثل السيل الذي يأتي بالليل.

عندما يأتي السيل بالنهار ممكن أن نتخذ له تدابير، لكن عندما يأتي بالليل لا تستطيع الوقوف أمامه.

هكذا النمام مثله كمثل ريح عاد، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم.

وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتّاتٌ).

والقتات الذي يقت في الكلام أي الذي ينم بين الناس.

وهذا الحديث رواه الستة البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة.

﴿مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)﴾

كان الوليد بن المغيرة أكثر الناس مالاً وكان أبخل الناس.

﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ (13)﴾

العُتل الغليظ الطبع، وبعد هذا كله فيه شبهة أن الوليد بن المغيرة ابن زنا.

حتى عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه قال: من يستجمع هذه الصفات فيه شبهة ابن الزنا.

وهو من يجمع بين كثرة الحلف والغيبة والنميمة والبخل والغلظة، هذه الصفات لا تجتمع إلا في ابن زنا والعياذ بالله.

من يحب أن يوصف بهذه الصفة؟ لا أحد، لذلك علينا أن نتحاشاها جميعها.

﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)﴾

كان مغرور بماله وأولاده، وكان إذا سمع القرآن يقول هذه أساطير الأولين.

والمقصود بأساطير الأولين أنه كان قديماً عند الفرس شخص يدعى رستم والثاني يدعى اسفنديار، كان لهم كتب فيها حكايات وقصص وخرافات، وكان من يذهب من أهل مكة قديماً إلى الفرس يأتي بكتاب من هذه الكتب يقرأ فيها.

﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)﴾

الخرطوم هو الأنف ولكن غالباً يطلق على أنف الفيل أو على أنف الخنزير، يقولون: خرطوم الفيل، وخرطوم الخنزير.

وذكرت هذه الصفة في الوليد لإشانته.

إذا ما أصيب الإنسان في أنفه وأنف الإنسان هو أبرز شيء في وجهه تظهر هذه الإصابة في أنفه كالشين والعيب.

لذلك الله تعالى توعده بهذا الوعيد فعقوبة الوليد أن الله تعالى سيجعل من عذابه الكي على أنفه.

﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)﴾

﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ﴾: يعني أهل مكة.

﴿أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾: أصحاب البستان الذي في اليمن وسيأتي ذكر قصتهم في السطور القادمة.

﴿لَيَصْرِمُنَّهَا﴾: يعني يجمعون ثمرها.

﴿وَلَا يَسْتَثْنُونَ﴾: لم يقولوا إن شاء الله.

﴿طَائِفٌ﴾: في رواية أن الطائف هذا كان جبريل عليه السلام، ضربها بجناحه فانقلبت الجنة أصبح ما في أسفلها أعلاها وما في أعلاها أسفلها.

﴿كَالصَّرِيمِ﴾: كان هناك رمل في اليمن اسمها الصريم.

لما اشتد عذابهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المسلمين، دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.

ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطْأَتَكَ علَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ)، دعا عليهم صلى الله عليه وسلم بالسنين يعني القحط.

لأن السنين التي أفتى فيها نبي الله يوسف عليه السلام لما كان في السجن وجاءه صاحبه الذي كان معه برؤيا الملك فسرها له بأن سنين قحط ستلم بالناس ودبر لهم تدبيراً ودلهم على ما يصلحون به شئونهم.

فكانت الدعوة عليهم بالقحط، فاستجاب الله لنبيه، فقحط أهل مكة حتى لم يجدوا ما يطعمون، فذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه الله والرحم أن يدعوا الله تعالى بأن ينزل عليهم المطر.

البلاء امتحان واختبار، ضرب الله مثلا فقد ابتلاهم بالقحط والشدة كما ابتلى أصحاب الجنة.

الجنة هنا ليست جنة الخلد، إنما الجنة هنا بستان من بساتين الدنيا.

وأصحاب الجنة أناس كانوا من اليمن، كان أبوهم صالحاً وكان يقوم في بستانه أو في جنته بما ينبغي أن يقوم به.

كان يتعهد البستان فإذا ما أثمر وجناه، ترك أثناء الجني ما يمر من المنجل، يتركه حتى إذا جاء المساكين من بعد الجمع يجدون شيئاً يقتاتونه.

وكذلك كان يأخذ محصول البستان وثمره يقسمه أثلاثاً، يدخر لأولاده ولنفسه الثلث، ويجعل في الأرض الثلث، ويتصدق بالثلث الآخر على الفقراء والمساكين.

وقام في جنته هذا القيام، لذلك الله تعالى أعطاه وزاده.

فلما مات الأب وورث الأولاد البستان، لم يكونوا على ما كان عليه أبوهم.

إنما نذروا وتواعدوا أن لا يبقوا شيئاً لمسكين، فتواعدوا فيما بينهم أن يجنوا ثمر بستانهم وجنتهم في الصباح الباكر.

لأنهم لو ذهبوا بالنهار ومر عليهم المسكين سيحرجون.

قالوا: نذهب في الصباح بعد الفجر نجني الثمر وندخله إلى البيت وما يرانا أحد.

انتووا هذه النية السيئة، عزموا على أن يحرموا الفقراء والمساكين.

﴿فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23)﴾

يتكلمون فيما بينهم في خفاء حتى لا يسمع بهم أحد، يخافون أن يتكلموا بصوت مسموع فيسمعهم الفقير فيتبعهم.

﴿أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)﴾

﴿حَرْدٍ﴾: المنع والحرمان، يعني نووا وعزموا على أن يحرموا الفقراء ويمنعوهم.

﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)﴾

﴿أَوْسَطُهُمْ﴾: الأعقل والأرجح في الرأي.

﴿قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31)﴾

﴿وَيْلَنَا﴾: بمعنى الخيبة والتعاسة والشقاء.

﴿طَاغِينَ﴾: متعدين.

فعندما يعزم المرء على أن يمنع الفقير حقه أو يمنع المسكين صدقته هذا متعدي غاشم هذا طاغي.

﴿عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)﴾

بعدما رأوا أثر سوء النية ندموا، والندم توبة، وطلبوا من الله أن يسامحهم وأن يعوضهم.

ننزل إلى الواقع، الأرز حصلناه وجمعناه وباعه أصحابه وهو في الأرض.

من الناس من زكى ومنهم من استخسر إخراج الزكاة، وأدخل المحصول جيبه وغفل عن حقه الذي فرضه الله تعالى عليه، قال تعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾.

وعلى هذا السبيل، أناس ليسوا بالقلة، المزكون اليوم قلة، ومانعوا الزكاة كثرة.

من يمنع الزكاة يظهر عليه الأوباء والأمراض والبلايا تزيد باستمرار، ويظهر أثر الحرام في البيت.

أنا عندما أمنع حق الله يظهر أثر المنع في أخلاق الزوجة وفي أخلاق الولد ويظهر في الأوبئة والأمراض المتوطنة التي تملأ البيوت.

ومن يزكي تظهر أثر الزكاة في بيته، تظهر على أخلاق الزوجة وعلى أخلاق الأولاد، وعلى عافيته، وتظهر في كل أحواله.

لذلك من منع الفقير حقه، الله يعاقبه بالمنع والحرمان.

ومن أعطى الفقير حقه وجاد، الله تعالى يجود عليه ويرفع عنه البلاء والمحن.

لذلك خذ من أصحاب الجنة عظة، لما ابتلوا بسوء النية التي انتووها، ورأوا العذاب بأعينهم، ورأوا ما أرسله الله على بستانهم وجنتهم، رجعوا من قريب، وندموا على ما كان منهم.

ثم رغبوا إلى الله، طلبوا منه العفو والسماح، وفي كتب التفسير أن الله تعالى عوضهم بعدها بعوض كبير.

﴿كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)﴾

ينزل العذاب من السماء في لحظة واحدة، وعندما ينزل مسلطاً لا يقوى مخلوق على مجابهته.

والله لو أخذت كل الحيطة والحذر لا تنجوا، لذلك نعوذ بالله تعالى من سوء البلاء.

إذا الزكاة ليست في الأرز فقط، من عنده تجارة يزكي، من عنده زرع يزكي، من عنده مشروع يزكي.

لينهض الفقير، ولنرفع المعاناة عن أصحاب الحاجات، وهذه الاجتماعيات مطلوبة في بناء كل دولة، فعندما يكون هناك تعاون بين الغني والفقير نرتفع معاً، ويكشف الله عنا السوء أجمعين.

عذاب الآخرة والعياذ بالله نار، نعوذ بالله تعالى من النار، اقرأ في سورة المعارج:

﴿يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14)﴾.

يتمنى أن يضع ابنه وامرأته وأخاه وجميع أهله وجميع من في الدنيا تحت رجليه حتى ينجو، إنما الأمر كما شاء الله تبارك وتعالى.

﴿كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ (18)﴾.

لظى اسم من أسماء جهنم.

ومعنى الآيات أن النار ستنادي على أصحابها، من كان يسمع الحق ويعرض عنه ستنادي عليه باسمه، ومن أعطاه الله بعد حرمان ولما ملك منع ستناديه باسمه.

لذلك نسأل الله تعالى رضاه والجنة وحسن الختام، ونعوذ بالله من سخطه والنار وسوء الختام.

﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)﴾

الخطاب لأهل مكة، هل يا أهل مكة من اتقى الكفر وتحاشاه وعبد الله تبارك وتعالى وحده ولم يشرك به شيئاً، هل يستوي من أشرك مع من وحد الله تعالى؟

﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۙ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40)﴾

﴿أَيْمَانٌ﴾: يعني الوعود.

سلهم يا محمد من الذي تكفل لهم بوعد الرحمن ألا يعذبهم؟

﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (41)﴾

ينادي الله تعالى الخلق يوم القيامة، من أشرك معي غيري تركته وشركه.

﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)﴾

يوم القيامة، الأصنام التي كانت تعبد في الدنيا لا ذكرى لها.

ينتظر الكفار والمشركون شفاعة أصنامهم فهم كانوا يقولون في الدنيا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ﴾.

فلما حشروا في القيامة لا مجال ولا شفاعة للكفار.

عند ذلك من كان يعبد معبوداً في الدنيا سوى الله يظهر له فلا يعرفه.

فيتجلى الله تعالى للمؤمنين فيكشف عن ساق فما يراها مؤمن إلا خر ساجداً.

يريد الكفار والمشركون أن يشابهوهم، فتتيبس ظهورهم فتصبح كصياصي البقر.

﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)﴾

﴿الْحَدِيثِ﴾: يعني القرآن الكريم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتَ اللهَ تعالى يُعطي العبدَ من الدنيا ما يُحبُّ، وهو مقيمٌ على معاصِيه؛ فإنَّما ذلك منه استدراجٌ).

﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)﴾

فعل كاد وأوشك من أفعال المقاربة، والمعنى يا محمد أهل مكة يتمنوا لك العطب ويتمنون أن لو مت فاستراحوا منك ومن دعوتك.

ومن ثم في بعض التفاسير أن أهل مكة كانوا يجمعون أصحاب الشهرة في الحسد ويجلسونهم على قوارع الطرق التي يمشي منها النبي صلى الله عليه وسلم.

﴿وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52)﴾

القرآن الكريم ذكر، والذكر يعني شرف، ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾، قال ابن عباس: وإنه لشرف لك ولقومك.

القرآن شرف ليس للمسلمين فحسب، بل للعالمين، فمن يتبع القرآن يتبع الشرف ويلبس الشرف، ومن يترك القرآن ويزهد فيه يترك الشرف ويزهد في الشرف.

مشاركة:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *